
تفتخر القبائل العربية في الجزيرة السورية (الحسكة ودير الزور والرقّة) بإرثها السرياني، متجاوزةً اختلاف الدين والنسب في منطقة جغرافية تمتاز بغناها الثقافي والديني والعرقي. وتتقاطع في الجزيرة السورية التي تعرف أحياناً بالجزيرة الفراتية حضارات عديدة، وتعيش فيها أقليّات دينية وعرقية متجاورة منذ قرون؛ ومن أبرزها الوجود السرياني الذي ترك بصمته في ثقافة المنطقة.
مبادرة في الجزيرة توقظ حلف السريان بزبيد والشيباني وطيء
لم يكن هذا النسيج مجرّد علاقات ودّية بين العرب والسريان، بل نموذجاً متيناً للتبادل الثقافي العميق، وانعكس في مظاهر الحياة اليومية، واللغة، والعادات، والأعراف، ليتحوّل إلى ظاهرةٍ تتجسّد في المجاهرة بفخر قبائل المنطقة العربية بإرثها المسيحي السرياني الذي يظهر على شكل تراثٍ لا مادي غير منقطع. ويبرز هذا التراث في رقصاتٍ شعبية، وأزياء، ونقوش، ووشوم، وأسماء وكنى، وتقاليد، ومأكولات، وأمثال، وغيرها من جوانب الحياة اليومية، متجاوزة اختلافات الدين والنسب الحالية، وحالة الاستقطاب العرقي والديني والطائفي الحادّة التي تفرضها ظروف المرحلة السياسية الراهنة.
أحلاف الدم
وليس اعتزاز العرب بالعادات السريانية المسيحية في الجزيرة مجرّد تقديرٍ لتاريخ مضى، بل هو تعبيرٌ عن وعيٍ حيٍّ بأهمية التعدّد والتنوّع في بناء هوية مجتمعية متماسكة. وفي زمنٍ تتزايد فيه الانقسامات على أسسٍ دينيةٍ وطائفيةٍ وعرقية، تُشكل الجزيرة نموذجاً نادراً للتآخي الإنساني، إذ لا تذوب الخصوصيات، بل تتكامل لتشكل غنىً حضارياً. وتُرجِم هذا الكلام إلى واقعٍ ملموسٍ من خلال أحلاف الدم القبلية؛ ولعل أبرز أمثلتها إحياء بني عمومة بين قبيلة زبيد العربية المسلمة وقبيلة الأسخينية السريانية المسيحية (نسبة إلى قلعة آزخ جنوب شرقي تركيا المتاخمة للحدود السورية).
وقال السياسي والمعتقل السابق، عبد المسيح قرياقس، مؤسس الأسرة الأسخينية في القامشلي (كانت تضم نحو 310 عائلات سريانية مسيحية عند تأسيسها في 2005): "كانت القبائل العربية الموجودة حالياً في الجزيرة الفراتية تدين بالمسيحية، وهربوا بمسيحيّتهم إلى مناطق وجود قبيلة طيء التي كانت تدين أيضاً بالمسيحية قبل الإسلام. وأضاف: "هربت تلك القبائل من الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية التي كانت تخالفهم في العقيدة المسيحية؛ وسكنت قبيلة زبيد حول أبرشية آزخ المعروفة أيضاً باسم بازبدي أو بيث زبداي". وتابع: "وسبب الخلاف الدموي مع الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية كان مذهبياً صرفاً، إذ فرضت الإمبراطورية مذهبها الأرثوذكسي الخاص على القبائل العربية المسيحية؛ زبيد، وتغلب، وبكر بن وائل، وعموم ربيعة، وبعض مضر، التي كانت تتبع المذهبين، اليعقوبي والنسطوري، لتهرب بعقيدتها إلى مناطق العراق وما بين النهرين، وصولاً إلى آزخ وغرب جزيرة ابن عمر بنحو 200 كيلومتر، فسكنت في منطقة آزخ، وصولاً إلى ديار بكر". وسُمِّيت تلك المنطقة في التاريخ البيزنطي بـ"العربية"، وتمتد من أورفا وحران غرباً إلى آزخ وديار بكر شرقاً.
وقال قرياقس: "حين سكنت زبيد بكثافة حول آزخ، تغير اسم أبرشيتها إلى أبرشية بيت زبداي، أي مسكن زبيد، وسكنت عشيرة تغلب غرب آزخ، بينما عشائر بكر بن وائل سكنت في المناطق التي تسمى الآن بديار بكر، وأخذت أبرشياتها السريانية اسم باعربايا (طور عابدين حالياً جنوب شرقي تركيا) أي منطقة العرب بالسريانية". وأوضح قرياقس أنه "عند قدوم الإسلام بقيت هذه القبائل زمناً تدفع الجزية كمسيحيين. وبعد مرور سنوات كثيرة وثبات الدين الإسلامي ووحدة اللغة بين تلك القبائل والمسلمين العرب تحول معظمهم إلى الإسلام، ولكنهم ظلوا يحتفظون في أعماقهم بالحنين إلى تلك الحقبة السريانية المسيحية المسالمة والطيبة من دون حروب".
فكرة الأسرة الأسخينية
ولدى سؤال قرياقس عن سبب إطلاق تجمّع الأسرة الأسخينية وفكرتها، أجاب: "في سبعينيات القرن الماضي قبل دخولي المعتقل عام 1975، كان الجو العام في القامشلي في معظمه وطنياً. وبعد 17 سنة، حين خرجت من السجن في 1992، ونتيجة بث سلطة حافظ الأسد وأجهزته الفكر الطائفي، صرت أسمع أن غالبية المسيحيين لا يقبلون حتى تأجير منازلهم لمسلمين، ويرفضون إجراء مختلف التعاملات الحياتية اليومية معهم". وتابع: "أردت أن أفعل شيئاً لأخفّف من هذا الداء الطائفي، وأن أحارب النظام الفاسد بطريقتي بين أبناء شعبي. وأتذكّر حين كنت في الصف الخامس (1953) كان يزورنا زعيم قبيلة زبيد، المرحوم حمّاد الفارس، وكان والدي من ضمن الذين يستقبلونه في مدينة ديريك (المالكية ومعظم سكانها أسخينيون)، وكان الشيخ حمّاد يصرّح بأن قومه زبيد كانوا قديماً مسيحيين من آزخ، وأهل آزخ المسيحيون هم أبناء عمومتنا".
وأوضح قرياقس، قائلاً: "أردت تحويل هذه الفكرة التي كان والدي وكثيرون من الأسخينيين وزبيد يؤمنون بها، إلى واقع حقيقي، فشكلت أولاً ما سمّيته الأسرة الأسخينية، لتضم أكثر من 300 عائلة أسخينية في القامشلي، بينما حجم الأسخينيين الكبير هو في ديريك. وبعدها عرضت على الأسرة أن نعيد العلاقة القديمة بين آزخ وزبيد، ولاقت الفكرة تشجيعاً، فشكلت وفداً من الأسرة وزرنا رئيس عشيرة زبيد في قرية كينجو (القاسمية). وحين عرضنا الفكرة على الشيخ منيف بن حمّاد الفارس، تقبّلها بفرح كبير، وبدأنا بالإجراءات العملية لوضع أسس مؤسّساتية لهذه الوحدة". وأضاف: "بعد نحو 45 يوماً قرّرنا أن نعلن أمام جميع القبائل العربية والمجتمع المسيحي في القامشلي قيام وحدة أبناء عمومة، وحضر التأسيس وفد من 50 شخصاً أسخينياً وأكثر من 150 شخصاً عربياً من زبيد بحضور أمير قبيلة طيء، الشيخ محمد عبد الرزاق النايف، وأعلنّا أمام هذا الحشد الكبير قيام وحدة أزخ وزبيد التي عنت وحدة السريان والعرب ووحدة المسيحيين والمسلمين، وكان ذلك في 2005". وتابع: "نحن الآن في 2025 بعد 20 سنة توطدت هذه العلاقة حتى أصبح كل شخص أو عائلة أو إنسان زبيدي وآسخيني يشعرون بأنهم إخوة وأبناء عمومة، واعتبرت هذا نصراً إضافياً على الفكر الطائفي الذي كان يبثه نظام الأسد ومخابراته".
وفي لقاء خاص، قال الشيخ منيف حمّاد الفارس، أمير قبيلة زبيد، لـ"سورية الجديدة" إن "الوجود الرئيس لقبيلتنا في قرية القاسمية بالقرب من بلدة الجوادية (55 كيلومتراً شرق القامشلي) فضلاً عن أكثر من 15 قرية أخرى، ويقيم معظم أفراد القبيلة في القامشلي؛ كبرى مدن محافظة الحسكة، وفي بلدة الجوادية، وصولاً إلى قرية الأحمدية على نهر دجلة شرقاً، وبلدة القحطانية جنوباً (نحو 30 كيلومتراً شرق القامشلي)". وأضاف: "يوجد زبيد حالياً في جنوب دمشق، وخصوصاً في منطقة الصنمين وفي غوطة دمشق، وفي محافظة السويداء، وهناك أيضاً في محافظة إدلب، وآخرون في ريف دير الزور. أما القسم الأكبر من زبيد، فيستقرّون حالياً في العراق، معظمهم في جنوبه، وفي شمال العراق بمنطقة الموصل وريفها، ولم ينقطع التواصل بيننا وبينهم". وتابع: "التقارب الاجتماعي مع السريان كان موجوداً قبل تأسيس الأسرة الأسخينية والاتحاد الذي جرى في 2005 مع كثير من العوائل الأسخينية والسريانية، وخصوصاً الموجودين في المالكية مركز الأسخينية". وقال: "أكد آباؤنا وأجدادنا عبر التاريخ صلة القرابة مع سريان المنطقة، ومعظمهم أسخينيون ممن تعرّضوا لإبادة عام 1915 (سيفو) على يد العثمانيين. وفي عائلة جدّي، كان هناك شخصان، أحدهما سرياني، والآخر أرمني، ترعرعا في منزل جدّي الشيخ المرحوم محمد الفارس، وأخذا اسمه رسمياً، بالإضافة إلى حالات كثيرة أخرى في منطقتنا، وكانت العلاقات طيبة دائماً مع جيراننا السريان".
وقال الشيخ منيف: "المشاركة الاجتماعية موجودة دائماً مع السريان في المناسبات السعيدة، وحتى في المناسبات الحزينة. واتذكر أن السريان الأسخينيين كانوا يشاركون مع أولاد عمومتهم زبيد حتى في دفع الدية في حالات القتل، وكان والدي الشيخ المرحوم حمّاد الفارس منذ ثمانينيات القرن الماضي ضد هجرة المسيحيين إلى دول أوروبا للحفاظ على الوجود المسيحي والسرياني في المنطقة".
وأضاف: "في خمسينيات القرن الماضي، عندما اشترى المرحوم والدي أول سيارة له، كان سائقه شاباً سريانياً اسمه عزيز، وكان يقيم هو وعائلته لدينا في منزل الأسرة كعائلة واحدة، وأذكر أن والدتي سافرت إلى أهلها في العراق سنة 1958 مع سائقها السرياني عزيز، بوصفه محرماً لها".
وتابع: "يحكى أن أجدادنا حين كانوا يؤدون فريضة الحج إلى الأراضي المقدسة، كانوا في طريق عودتهم يمرّون على كنيسة آزخ (أبرشية بيت زبداي) في نوع من الوفاء لجذورهم المسيحية السريانية"، وهو ما يؤكّده عبد المسيح قرياقس.
وأضاف أن والده استضاف عائلات سريانية عديدة، كان أبناؤها يمتهنون في القرية حرفاً مثل الطب والعطارة وغيرهما.
وحدة ثلاثية
لم يقتصر الأمر على الوحدة بين آزخ وزبيد، بل تطور إلى وحدة ثلاثية بإضافة قبيلة بني شيبان التي ينتمي إليها وزير الخارجية السوري الحالي أسعد حسن الشيباني (يتوزع معظم بني شيبان المحلمية حالياً في جبال طور عابدين ومن حبس ناس على نهر دجلة إلى غرب ماردين في تركيا، وتوسّعت هجرتهم في بداية القرن الماضي لتشمل القامشلي وحلب واسكندرون وحتى لبنان، وتوزع آلاف منهم في دول أوروبا الغربية).
وقال قرياقس: "في 2006 جاء زعيم قبيلة بني شيبان المرحوم رفعت صبري (أبو قيس) ومعه شخصيات من القبيلة المعروفة بقبيلة المحلمية، وطلبوا أن نقيم معهم علاقة أولاد عمومة وجيران بحكم إرثهم المتشابك مع السريان".
أمير زبيد: السريان أبناء عمومتنا ويدفعون معنا الدية
وكانت قرى بني شيبان قريبة من آزخ، وقبل اعتناقها الإسلام منذ أربعة قرون، كانت تدين بالمسيحية، وتتبع أبرشية آزخ السريانية، وكانت لهجتها العربية لهجة آزخ ذاتها الخاصة والمميزة في المنطقة. وأكد وجهاء من القبيلتين وجود قديس مسيحي لدى بني شيبان؛ يدعى "مار شمعون المحلمي"، وهو مذكور في أرشيف الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في طور عابدين (بيث عربايا). وقال قرياقس: "نظمنا في 2006 احتفالاً كبيراً ضم 20 أسخينياً و15 شخصاً من زبيد و15 شيبانياً، وأعلنا قيام وحدة آزخ والمحلمية وزبيد، وأصبحنا أكبر قوة اجتماعية منظّمة ومنضبطة مع بعضها، وضربنا الفكرة الطائفية في مقتل".
وقال شيخ قبيلة المحلمية، قيس رفعت صبري الشيباني: "نفتخر بجذورنا المسيحية، إذ كان معظم منطقتنا قبل ظهور الإسلام يتبع الديانة المسيحية المشرقية، ولدينا عادات وتقاليد موروثة عن الديانة المسيحية، منها "بيضة السبت"، وهي عادة رمي بيضة في النهر على أمل الشفاء من مرض التوحد والبكاء الشديد، وأيضاً لعلاج "أبو كعب"، كان أبناء قبيلتنا يقلبون قدر الطعام ويلتقطون منه الرماد، ليرسموا علامة الصليب على مكان الورم في وجه المريض، على أمل الشفاء، رغم أنهم مسلمون، وأيضاً هناك عادة موروثة اسمها "نذر" (ميمة قاديشكا.. من القداسة في اللغة السريانية)، وهي عادة قديمة جداً كانت معروفة حتى عهد قريب ربما انتهت في ثمانينيات القرن الماضي، وتقوم على طهي الدجاج مع البرغل وإطعام أطفال الحي".
وأضاف: "هناك عوائل محلمية عديدة جذورها سريانية مثل عائلة القس، وعائلة المقسي (تصغير لعائلة المقدسي نسبة إلى القدس) وعائلة جانو، وكابي وغيرها من أسماء سريانية. وتابع: "بعد مراجعة الإرث المشترك بيننا نحن بني شيبان، وقبيلة الأسخينية السريانية، بدت لنا رغبة مشتركة في إبراز هذا الإرث وإقامة تحالف قبلي قائم على إرث طويل مشترك على أمل أن يتحول إلى وحدة حال مستقبلية".
شيخ قبيلة شيبان المحلمية: إرثنا مشترك وتحالفنا قائم
أكبر القبائل العربية والإرث السرياني
قبيلة طيء، أكبر القبائل العربية، أبناؤها منتشرون في القامشلي وريفها الجنوبي، وفي دير الزور والرقة وشمال حلب وفي حماة، وحمص (ومنهم عائلة برهان غليون) وفي ريف دمشق، وإدلب، ودرعا، والجولان. وفي العراق، في الموصل وريفها والجنوب. وطيء العراق أكثر عدداً من طيء سورية، وأميرهم هناك الشيخ صباح غازي الحنش. وهناك وجود لطيء في جنوب شرق تركيا أيضاً حتى أطراف ديار بكر في نحو 40 قرية. وفي الأردن وفلسطين والسعودية.
وما زالت طيء تجاهر بإرثها السرياني المسيحي، ويردّد أبناؤها في مجالسهم الخاصة والعامة عبارة فخورة: "نحن الطائيين سريان". وقال الشيخ محمد عبد الرزاق النايف، أمير قبيلة طيء في سورية، ومقرّها قرية جرمز (ثلاثة كيلومترات جنوب القامشلي): "تعود أصولنا إلى حاتم الطائي الذي كان سريانياً مسيحياً. وكان عندنا في طيء كثيرون من رجال الدين المسيحي، ومنهم مطارنة. وتضم مضبطة طيء توقيع وجيه سرياني". والمضبطة وثيقة قبلية تضم مجموعة قوانين وأعراف اجتماعية يعمل بها أفراد القبيلة مثل حالات القتل، والسرقة، وحوادث السير، والمشكلات اليومية، وحتى احترام أصحاب الشهادات العليا. وأضاف: "استقرّت قبيلة طيء في الجزيرة السورية قبل نحو 600 عام، وتفرّقت في كل سورية نتيجة الحروب وبقايا المعارك الكثيرة التي كانت في المنطقة، ولا نترك مناسبة إلا نؤكّد فيها أننا سريان وكنا مسيحيين ومنا خرج كثيرون من مشاهير المطارنة في تاريخ الكنيسة السريانية".
حفيدة حاتم الطائي تتحدّث السريانية
وفي لقاء مع الشيخة الطائية، غالية علي طلال، قالت إنها هي وأبناؤها يتحدّثون السريانية بجدارة في منزلها بقرية الوطوطية (سبعة كيلومترات غرب القامشلي وسكّانها سريان وعرب وتحمل قيمة دينية لدى المسيحيين) ومع محيطها السرياني. وقالت: "تعلّمت السريانية من أهلي وجيراني السريان في القرية، وافتخر بجذوري السريانية، رغم أني عربية، وأذكر زيارة زوجي المرحوم محمد طلال قبل سنوات قبر جدّنا حاتم الطائي في منطقة حائل شمال غرب السعودية. واعتزُّ بالسريانية، لغتي الأم، حتى حين أحلم، فأنا أحلم باللغة السريانية، وهذا دليل على أنها لغتي الأم، وأتحدّث مع جميع أبنائي باللغة السريانية، ولا أشعر بأي اختلاف بيني وبين جيراني السريان". وأضافت: "في الوطوطية حيث نقيم يسيِّر أمور كنيسة مار شربل لجنة تتألف من سريان القرية المسيحيين إلى جانب شقيقي المسلم الشيخ ظاهر أبو طلال، وفي 2024 احتفلت الكنيسة وأهل القرية بتخرج ابنتي فجر من كلية الحقوق، وقدموا إليها هدايا وكأنهم عائلتها، وفي أي مناسبة في القرية يكون هناك تشاركية ونجتمع في الكنيسة في الأعياد وحتى في المناسبات الحزينة، وقدمت الكنيسة حين وفاة والدي في 2009 واجب العزاء وكأنه أحد أبنائها". وتابعت: "كان المرحوم والدي يدافع عن سريان المنطقة (الفلاحين) حين كانوا يتعرّضون لاعتداءات".
تراث غير منقطع
لعبت اللغة السريانية دوراً في إثراء لهجات العرب المحليين، وخصوصاً في القرى المختلطة، إذ تنتقل الكلمات والمفردات من لغة إلى أخرى بسلاسة؛ ومن أمثلتها استخدام أبناء قبيلة بني شيبان (المحلمية) وغيرها من القبائل العربية، لمفردات سريانية عتيقة مثل "تَخِّرْ: وتعني تنحَ جانباً بالعربية"، و"صُوْل: وتعني حذاء بالعربية"، و"غُبْن: بمعنى الظلم بالعربية".
وتأثرت الألحان الشعبية العربية في الجزيرة السورية أيضاً بنغمات الطقوس الكنسية السريانية وتراتيلها، أقدم المقطوعات الموسيقية في التاريخ، ما أضفى على الأغاني المحلية عمقاً روحانياً مميزاً. ويتقاطع في الجزيرة السورية اللباس التقليدي بشدة بين أبناء القرى، العربية والسريانية، وتتشابه حد التطابق في زخرفتها وألوانها. ويستمرّ الإرث السرياني المسيحي لدى نساء زبيد وغيرهن من القبائل العربية، إذ يعمدن إلى رسم صليبٍ على العجين قبل تركه ليتخمّر ويُخبَز فيما بعد، أو في النقوش على عجينة "الكليجة" (حلويات العيد المحلية في الجزيرة السورية التي ورد وصفها ومقاديرها في النقوش المسمارية). ويلمح زائر قرى الجزيرة وشم الصليب على الأيادي والذقون لنساء كثيرات طاعنات في السن من البدويات ونساء القبائل العربية.
وفي هذا الإطار؛ قال مؤسّس فرقة بارمايا للثقافة والتراث، جورح قرياقس: "امتزجت شعوب منطقة الجزيرة الفراتية السورية وحضاراتها وعموم منطقة بلاد ما بين النهرين كثيراً، وهو ما يعني امتزاج جميع ما يرافق ذلك من تراث لا مادي مثل الموسيقى والأغاني والرقصات وصيحات الحرب وألعاب الأطفال وطقوس الاستسقاء وغيرها". وأضاف الخبير بالتراث السرياني: "طقوس الاستسقاء، مثلاً، عند السريان كانت الأقدم، وهو ما يتجلّى بطقس شعبي مرفقة بأهزوجة "حانو حانو قريثو"، وهي نفسها الأغنية العربية "يا أم الغيث غيثينا خلي المطر يجينا". وكلمة طنايا التي تستعملها قبيلة شمّر أصلها سرياني (طانونني)، وتعني الجسور والمقدام الشجاع". وتابع: "أيضاً للوشوم لدى النساء تعابير منها جمالية ومنها طبية ومنها ترمز إلى ميثولوجيات قديمة؛ ومنها علامة الصليب، والهلال رمز الإله سين، والشمس والدائرة رمز للإله شمش وغيرها الكثير، ومنها أيضاً الوشوم الطبية مثل وشم الجدري على الذراع". وختم قرياقس: "هناك أيضاً قصة الكريف أو جريف، وهي عادة شهيرة فقط في الجزيرة السورية، وهو اسم يطلق على الشخص الذي يحضن الطفل عند ختانه لتربطهما علاقة روحية، وهذا المصطلح جاء من كلمة قريب (الإشبين)، وهو بمثابة الأب الروحي لدى المسيحيين حين تعميدهم".
ورثاء الميت وتأبينه من العادات الممتدّة منذ السومريين والأكاديين، ونراها ماثلة في قرى الجزيرة؛ منها شقّ النساء لثيابهن ورمي التراب على رؤوسهن والعويل ونتف شعر الرأس وضرب الجسد والبكاء المرّ المترافق بأهازيج تذكر مناقب الميت ومدى الحزن الشديد على خسارته.
إرث عصيّ على الفتن
في العرض التاريخي الاجتماعي الموجز أعلاه، ظاهرة يريد أبناء القبائل من خلالها تأكيد الإرث المتصل بشعوب المنطقة التي شهدت ويلات وحروباً وكوارث طبيعية، وعلى أن الأعراف والإرث الثقيل للمنطقة عصي على غثاء الإيديولوجيات والتجاذبات السياسية البراغماتية، وحالة الاستقطاب العنيفة لثنائيات ما قبل الدولة المنتشرة بكثرة لدى العوام وفي صفحات التواصل الاجتماعي وأبطالها الملثمين وحساباتهم مجهولة النسب والحسب.
محمد اليساري: لقب سريان أطلق على قبائل عربية مثلما أطلق على فرع من الآراميين
يعد كثير من العرب في الجزيرة الإرث السرياني جزءاً من ذاكرتهم؛ فالكنائس القديمة، والنقوش السريانية، والمدارس اللاهوتية التي كانت منارات للعلم والمعرفة، ليست بالنسبة لهم مجرد تراث سرياني، بل تاريخاً مشتركاً لجميع سكان المنطقة؛ المعروفة أيضاً باسم الجزيرة الفراتية.
ويتجلى التأثر المتبادل بين العرب والسريان في الممارسات الاجتماعية؛ الدينية، والاحتفالات الشعبية. وفي كثير من القرى والمدن ذات الغالبية العربية، يُشارك العرب جيرانهم المسيحيين السريان أعيادهم مثل الميلاد والفصح، وحتى القومية مثل رأس السنة البابلية (أكيتو).
في حوار مع الباحث المتخصّص باللغة العربية والأنساب ومؤلف كتاب "قبيلة طيء العربية.. موجز تاريخي"، محمد اليساري؛ قال: "حين نتكلم عن شعوب المنطقة.. فنحن نتحدث عن أبرز الشعوب السامية التي بنت حضارات العالم القديم؛ فمن البابلية، إلى الآشورية، إلى الأكادية، والكنعانية، والفينيقية، والهكسوس في مصر، والآراميين ومنهم السريان، وصولاً إلى الحضارة العربية التي ورثت جميع إنجازات أسلافها الساميين، وهضمتها، وبلورتها في صورة ثقافية تركيبتها جامعة ولسانها وطابعها النهائي عربي".
وأوضح اليساري: "من هنا نستطيع أن نفهم العلاقة بين العرب والسريان بتعميم واسع أنها علاقة بين أخوة، بين أبناء عمومة بمصطلحنا البدوي، ولأن السريان الآراميين بنوا حضارة قبل إخوتهم العرب. اندمج العرب الأوائل الذين جاوروهم بالسريان بسبب صلة العرق، والمجاورة الجغرافية، وكانت أبرز نقاط هذا الاندماج وضوحاً، هي اعتناق الدين الذي كان يعتنقه السريان في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام، إبان سيطرة البيزنطيين على الشام، والفرس على العراق، وكانوا في معظمهم مسيحيون نساطرة، الذي كانوا ملاحقين من قبل الكنيسة البيزنطية (الأرثوذكسية الشرقية) فاعتنق العرب الذين اختلطوا بالسريان وجاوروهم في العراق (مثل قبيلة طيء العربية التي كان أبناؤها ملوك العراق ومن قبلهم المناذرة اللخميين ملوك العراق نيابة عن كسرى) وفي الجزيرة الفراتية (تغلب، وإياد، وبكر) وفي الشام (الغساسنة العرب ملوك الشام نيابة عن بيزنطة) اعتنقوا الدين المسيحي على المذهب النسطوري الذي يدين به أكثر السريان".
وقال اليساري، كاتب مسلسلات "عنزة، وسعدون العواجي، والحسن والحسين، والإمام، وفتح الأندلس، ومعاوية، والمماليك": "في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ السريان توسع مفهوم المصطلح (السريان) ليصبح أكثر شمولاً من كونه يدل على (عرق) بل أصبح يضم في مدلوله الشعوب التي تدين بالمذهب النسطوري (السرياني) وكان أغلب معتنقي هذا المذهب من غير السريان هم العرب، فصار يُطلق كثيراً على الشعوب العربية التي اعتنقت المسيحية النسطورية (السريان) وهو إطلاق ينظر للسريان كطائفة وليس عرقاً، وبهذا صار العربي سريانياً كانتماء ديني، وليس كانتماء عرقي، لأن أنساب العرب محفوظة إلى قحطان وعدنان، أحفاد سام بن نوح، كما أن السريان محفوظة أنسابهم وانتماءاتهم حتى سام بن نوح، فهم يجتمعون مع العرب في سام بن نوح عليه السلام.
وأضاف: "لعل هذا الموجز للتأصيل التاريخي لعلاقة الشعبين العربي والسرياني، يبين بوضوح معنى القول: إن بعض العرب سريان، فهم سريان من حيث إن معنى مصطلح (سريان) يعني (طائفة دينية) وهم عرب في النسب والعرق، ولذلك كانت قبيلة طيء العربية في منطقة الجزيرة الفراتية، وغيرها من القبائل العربية الأخرى التي كانت تدين بالمسيحية النسطورية تفتخر بانتمائها السرياني (الديني) رغم أنها كعرق ونسب تتمايز عن السريان كعرق، وإن كانت تلتقي معهم في جد واحد، هو سام بن نوح".
وتابع: "هذا التفريق بين مدلول مصطلح السريان كعرق أو طائفة دينية، يعرفه المتخصّصون غالباً، أما جمهور العرب الطائيين وغيرهم، وجمهور السريان، فلا يعرفونه، أو لا يكترثون به أساساً، ولذلك تراهم ينسبون السريان لهم، وينتسبون لهم، حتى إن أمير طيء في الجزيرة الفراتية، يضع السريان مع مجموع القبائل الطائية، ويلتزم معهم كما يلتزم بأقرب الناس له في الدم، والجوار والتكافل الاجتماعي كما يلتزم السريان في الجزيرة الفراتية معه في هذا العقد الاجتماعي، وليس مستغرباً إن جلست في إحدى مضافات قبيلة طيء العربية، وسمعتُ رجلاً طائياً يقول لك: نحن الطائيون سريان".

Related News

