
"لوقدَرَ لكل ثانية من حياتنا أن تتكرر مرات لا حصر لها، لكنّا معلقين على الأبدية مثلما عُلق يسوع المسيح على صليبه". بتلك العبارة الفاتنة من ميلان كونديرا، يمكن أن نبدأ سرديتنا الأبدية، لا عن حدثٍ عابر، بل عن لحظةٍ تُصرّ أن تتكرر، أن تعيد نفسها كجُرحٍ لا يندمل، كأيقونة تسقط من جدار كنيسة وتحطّ على أرضٍ لا تعرف النسيان.
في ظهيرة الأحد الأخير، لم تكن كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة الدمشقي تحتفي بقداسها المعتاد، بل كانت تستعد لتوديع زمنها مرة أخرى. دخل الموت من الباب الأمامي، مثل عائدٍ من سفرٍ طويل، بملامح من يعرف الطريق جيداً. تفجيرٌ آخر، أرواحٌ سورية جديدة أُزهقت، ودمٌ يتسلل بين شقوق الرخام العتيق.
وهو عتيق بالفعل، عتيق للغاية، ففي هذا المكان قرب الباب الشرقي، تقول الحكاية أن شاؤول الطرسوسي جاء إلى دمشق على رأس جيش من اليهود لملاحقة المسيحيين الأوائل، وإفنائهم قبل ان يتكاثروا وتكبر شوكتهم. وهنا، عند هذا المكان هبطت عليه الرؤية، وتحول إلى المسيحي المؤمن بولس الرسول. وهنا جلس أيام العمى منتظراً عودة بصره، بعد ان عادت بصيرته. ومن هناك انطلقت المسيحية إلى العالم.
ليست هذه أول مرة يُستهدف فيها المكان، ولن تكون الأخيرة. وكأنّ التاريخ لدينا ليس خطاً مستقيماً، بل دوّامة تُعيدنا، رغماً عن إرادتنا، إلى اللحظة نفسها. تلك الفكرة التي ردّدها فريدريك نيتشه عن "العود الأبدي" لم تعد تنظيراً مجرّداً. نحن نعيشها، نختنق بتكرارها، نُعلق فيها كما عُلق المسيح، بين الأرض والسماء، لا موت يريح ولا قيامة تبرر.
شاؤول الطرسوسي جاء إلى دمشق بجيش من اليهود لملاحقة المسيحيين الأوائل وإفنائهم، لكن الرؤية جعلته بولس الرسول
فهذا قدر الأماكن العظيمة، التي تصنع التاريخ، أو يصنعها التاريخ، وترتبط بكل تحولاته وتقلباته. لكن ما الذي يدفع مدينةً كتبت على جدرانها أسماء الشهداء بكل اللغات أن تستسلم لهذا التكرار المأساوي؟ هل يكون الخوف؟
الخوف، كما يصفه فرويد، ليس حالة طارئة، بل هو حضور دائم، يسكن في الذاكرة أكثر مما يسكن في الواقع. والتفجير الأخير لا يُراد له فقط أن يقتل، بل أن يعيد برمجة الذاكرة، أن يعيد كل سوري إلى لحظة انكساره الأول، أن يُقنعه بأن "الحاضر" هشٌ دائماً، وأن الماضي وحده يقين، وأن السوري الجيد هو السوري الخائف. لأن السيطرة على الخائف تكاد تكون أسهل من السيطرة على الميت. فما الأفضل للتحكم بشعب كامل أجدى من جعل هذا الشعب خائفاً، خصوصاً انه خارج للتو من حفرة خوفٍ عميقةٍ وهائلة، ظل قابعاً بها لعقود، ولد وكبر وتعلم وتزوج وأنجب، فيما مسدس البعث وآل الأسد موجه إلى رأسه.
في تلك اللحظة، لم يكن المشهد محض عنفٍ عبثي. كان عرضاً رمزياً مكثفاً عن عجز الدولة، عن ضعف المقدّس، عن تحوّل دور العبادة من ملاذٍ روحي إلى مسرح دموي. وكأنّ الجناة لا يكتفون بالقتل، بل يتلذذون بتدنيس الملاذ، بهتك التراتيل، بتفجير البخور في الهواء لا نحو السماء بل نحو الخواء.
ولأن دمشق مدينة لا تعرف الحياد، فإن كل تفصيل فيها يحمل معنىً آخر. الكنيسة هنا ليست مجرد بناء ديني، بل هي استعارة لهشاشة الجماعة. وإن كان والتر بنيامين يرى أن "كل لحظة حاضرة تحمل في طياتها إمكانية الثورة"، فإن لحظتنا الحاضرة هذه، بما فيها من رعبٍ وغموض، لا تحمل سوى خيانة التاريخ. فبدل الثورة، نعيش إعادة إنتاج للصليب، لا مرة واحدة، بل ألف مرة.
وتسري في جسد الحيّ مشاعر الفقد كعدوى. "مريم" التي خرجت من بين الركام وهي تمسك بيد طفلة لا تعرف اسمها، قالت بصوتٍ لم يكن يرتجف: "هذا المكان لا يُريدنا أن ننسى. إنه يعيدنا دائماً إلى لحظة الدم الأولى".
ذلك ما سماه خورخي لويس بورخيس بـ"اللحظة التي تتفرّع فيها كل المسارات، ويصير كل قرار تكراراً لمعاناةٍ قُدّرت منذ الأزل".
لكن، ورغم هذا الثقل، تبقى المدينة تنبض، ولو من تحت الأنقاض. يوم الغد، سيُعاد ترميم الكنيسة، سيُعلَّق الصليب من جديد، وستُعاد صلاة "السلام عليكِ يا مريم" في أذن المكان. ليس لأننا نؤمن بالقداسة، بل لأن القيامة، كما كتب إرنست بلوخ، هي "فعل دنيوي يخلقه الأمل، لا وعد إلهي يُنتظر". هذا ما فعلته دمشق مرات كثيرة في التاريخ، وهذا ما فعلته كنائس دمشق، كما فعلته مساجدها وزواياها وتكاياها، وحدائقها ومطاعمها ومدارسها، وهذا ما ستستمر في فعله إلى آخر الدهر.
إن في دمشق صليباً لا يُنزل، وأيقونة لا تنكسر، وسردية لا تُدفن. وربما، هنا فقط، نعرف ماذا قصد كونديرا حين كتب عن الأبدية: ليست خلوداً طوباوياً، بل عذاباً يتكرر، كلما رفضنا أن نحزن بشكلٍ عادل.
في هذا الزمن السوري، لا يعود الخوف من الموت هو الأسوأ، بل الخوف من ألا يكون هناك معنى لما نعيشه. ومن أن يتحوّل الزمن نفسه إلى قفص حديدي يعيد إنتاج الجريمة في نسخٍ محسنة، أكثر دمويةً، وأقل ضجيجاً، وأن يصبح الجهلة أسياد اللحظة، والأغبياء الضيقون حراس الاتساع.
وبينما يُسدل الليل ستائره الثقيلة على حي الدويلعة، تظلّ دمشق كلّها معلقة على صليبها، بانتظار قيامةٍ من نوع آخر: قيامة لا تُكتب على يد السماء، بل تُنتزع من باطن الأرض، من ركام الكنيسة، ومن دماء المصلّين.
الرسالة من التفجير واضحة، ثمة من يُخطط لجر سورية للسيناريو العراقي، وهذا يتطلب تغلغل العناصر ضمن الحواضر المدنية
لا شيء يحدث في هذه البلاد مصادفة، والأكثر فظاعة إن لا شيء يحدث بمعزل عما يحصل في الجوار، وجوار الجوار، أو بعيداً عن السياق التاريخي للأحداث. والمؤسف أن العنف والتطرف موجودة تحت الطلب، يُستثمر فيها في كُل مرة يشعر السوريون بالأمان والراحة ونبذ الطائفية والصراعات، وكأن العلامة المميزة والفارقة لهذه البلاد أن تبقى تحت رُهاب القلق والقتل والموت، هو استثمار العنف كأداة دائمة الهيمنة، وإعادة إنتاج للانقسامات والهويّات القاتلة. ولعبد الرحمن الكواكبي مقولة تشبه حالنا نحن السوريون اليوم حين قال " إذا فسدّت السياسة، صارت الطائفية وقودها، والعنف لغتها، والموت سبيلها الوحيد إلى البقاء". الواضح أن الإرهاب يستثمر اللحظة السياسية التي تعيشها سورية، ويعيشها الإقليم كُله، هذا العنف المستمر سيقود حتّماً لسلوكيات مسؤولة عن الدفاع عن إرث العنف المستقبلي، وكي يستمر التطرّف العنيف والممارسات العنفية، لابد من ربطها بالضد من وجود قومية، أو ديانة مُعينة، كي يستقيم وضعها هي.
السلطة في دمشق ورغم إنها درة العين للغرب وأمريكا والخليج وتركيا، لكنها تستمر الحلقة الأضعف أمام كل ما يجري من حولها، وما راكمته البلاد على مدة عقود من عنف وكراهية قد يستمر بالانفجار في وجهها ووجه المجتمع في أي لحظة. وهي تدرك أن تغلغل العنف لن يغدو حالة طارئة، بل سيتحول إلى انقلابٍ على السلطة نفسها.
الرسالة من التفجير واضحة، ثمة من يُخطط لجر سورية للسيناريو العراقي، وهذا يتطلب تغلغل العناصر ضمن الحواضر المدنية، لكن الصد والسّد أمام تلك الخطوة، إن القوة المشكلة لهياكل الحكم في سورية ليست جاذبة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بل طاردة لها، وبالتالي فإن لا دعم لأيّ قوة تسعى لنشر ثقافة المفخخات والقتل على الهويّة المذهبية أو الإثنية، لهذا فإن التفجير لا يُمكن أن يتحول إلى واقع سياسي يومي، بعكس الفعل الشنيع الذي مارسه نظام الأسد حين أطلق النظام البعثي السابق سراح مئات من الجهاديين، على أمل أن ينجح في قتل الثورة منذ أيامها الأولى، فهو أيّ النظام صاحب تراكم كبير في معرفة طبيعة الجماعات الجهادية. ولن يتمكن أحد من نقل ساحة الصراع من العراق ولبنان إلى سورية في مواجهة أمريكا ودعمها للسلطة في دمشق، أو أن حصلت فإن الإقليم والفضاء السياسي والمجتمعي العربي برمته سينفجر ويتم نقل كافة أشكال الاضطرابات والاختراقات إلى دول الجوار السوري على الأقل، وهو ما سيعني عودة السوريون للمربع الأول من جديد. ثمة مشروع أميركي- خليجي واضح في سورية، بالمقابل فإن الكثيرين لا يُحبذون ذلك، لكن لا إمكانية لنقل تجربة العراق الدموية إلى سورية، أو أن هذه مجرد أمنيات؟ ولان كل الأمنيات قابلة للتحقق، فمواجهة مخطّط كهذا يمكن أن تتم بطريقة بسيطة للغاية: تحصين الجبهة الداخلية بالتقاء جميع المكوّنات، وتشاركها في صياغة مستقبل بلدها الخارج من حرب قبيحة عنيفة، اهدر فيها نظام الأسد طاقات شعب كامل على مدى نصف قرن.

Related News

