لا يمكن تصوّر سورية من دون مسيحيّة ومسيحيين
Arab
8 hours ago
share

لا يصح القول في سورية عن مسألة مسيحية، ولا عن مشكلة، ولا قضية. كذلك لا يصح القول عن الوجود المسيحي فيها، أو الأقلية المسيحية، أو أي واحد من تلك التعابير النابعة من ضعف المعرفة التاريخية. فالمسيحية في سورية من طبيعة الأشياء. والمسيحيون السوريون لا يشبهون باب السلام بل يشبهون قاسيون.

في خريطة الشرق الأوسط المعقّدة، تقف سورية حالة استثنائية في تكوينها السكاني والديني، فرغم غلبة مكوّن عدداً وعدة طوال القرون الثمانية الأخيرة، ما زالت تتداخل فيها أديان ومذاهب وثقافات، بعضها محصور داخل الجغرافية السورية المعاصرة، والبعض الآخر عابر للحدود. بين هذه المكونات، يبرز الوجود المسيحي، لا بوصفه أقلية طارئة، بل بوصفه جذراً متغلغلاً في ترابها، روحاً تخيم على تراثها الثقافي والفني وهويتها الجامعة.
كانت سورية بخريطتها الجغرافية الحالية أحد المواطن التي كانت شاهدة على كرازة المسيح، من نبع بانياس في الجولان، وقمة جبل الشيخ، إلى مدينة بيت صيدا والكرسي في منطقة البطيحة على ضفاف بحيرة طبريا من جهة الشرق. وكانت أيضاً من أوائل الحواضر التي اعتنقت المسيحية، واحتضنت مدارسها اللاهوتية، وصدّرت قديسيها إلى العالم المسيحي برمّته. وإذا كانت الجغرافيا قد جعلت منها ملتقى للحضارات، فإن المسيحية جعلت منها مركزاً من مراكز الإشعاع الروحي والكنسي، يستقطب الزائرين والحجاج والعلماء منذ القرن الميلادي الأول وحتى يومنا هذا.

تضم سورية اليوم طيفاً واسعاً من الكنائس، تتنوّع بين الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية

لم تكن المسيحية في سورية ديناً دخيلاً في أي يوم من الأيام، بل كانت نابعة من التراب السوري ذاته. مدينة أنطاكية، المدينة الواقعة في شمال غرب سورية والتي ذهبت في صفقة فرنسية لم يكن للسوريين يد فيها، بقي ريفها ضمن خريطة سورية الحالية ممثلاً بأجزاء واسعة من محافظة إدلب الحالية، هي واحد من أقدم مراكز المسيحية على الإطلاق، وواحد من الكراسي الرسولية الثلاثة الأولى، إلى جانب روما والإسكندرية. في هذه المدينة دُعي أتباع يسوع "مسيحيين" لأول مرة، بحسب رواية سفر أعمال الرسل (11:26)، وكان فيها القديس بطرس أول أسقف، قبل أن يتجه إلى روما. 
وفي العصر الرسولي، انطلقت من سورية أولى بعثات التبشير المسيحي نحو آسيا الصغرى واليونان والشرق الفارسي، ما جعل منها بوابة المسيحية إلى العالم. وعلى امتداد القرون الأولى، تحولت مدن سورية إلى مراكز للجدل اللاهوتي، حيث ازدهرت المدارس التي ناقشت طبيعة المسيح، وساهمت في صياغة العقيدة المسيحية كما نعرفها اليوم.
وقد لعبت اللغة السريانية التي كانت شائعة في أجزاء واسعة من الخريطة السورية الحالية دوراً أساسياً في هذا السياق، بوصفها الوعاء الذي نُقلت فيه النصوص المقدسة والصلوات، وهي لا تزال حية في قرى مثل معلولا وجبعدين، حيث تتلى الصلوات إلى اليوم بلغة السيد المسيح، في مشهد حضاري لا نظير له في العالم المسيحي.
تضم سورية اليوم طيفاً واسعاً من الكنائس، تتنوّع بين الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية، ومن أبرزها: بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس: وهي من أعرق الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، والكنيسة السريانية الأرثوذكسية، والكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية، وكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، والسريان الكاثوليك، والأرمن الكاثوليك، والموارنة، والكلدان: وهي كنائس شرقية في طقوسها، لكنها ترتبط بالشراكة الكنسية مع الفاتيكان. والكنائس الإنجيلية والبروتستانتية: التي تمثّل وجهاً حديثاً من الوجود المسيحي، وخاصة في مراكز المدن الكبرى. وليس هذا التعدّد انقساماً، بل هو شهادة على حيوية الوجود المسيحي السوري، فلكل كنيسة تاريخها وأيقوناتها ورهبانياتها ومراكزها الروحية والتعليمية، لكنها تتشارك جميعاً في الانتماء إلى المكان واللغة والتاريخ.
لم يكن المسيحيون في سورية يوماً مجرّد فئة دينية مغلقة، بل كانوا جزءاً من الحركة الاجتماعية والسياسية والثقافية. منذ القرن التاسع عشر، شارك المسيحيون في الحركة النهضوية العربية، وأسهموا في تأسيس الصحافة العربية، كما برز منهم شعراء ومفكرون وكتاب من أمثال ميخائيل مشاقة، ونقولا سيوفي، ونعمان قساطلي، وسليم العنجوري، وفرنسيس ومريانا المراش وإبراهيم الحوراني، وماري عجمي، وغيرهم الكثير الكثير. كما كانت المدارس المسيحية بمختلف أسمائها من أوائل المؤسسات التي نشرت التعليم الحديث في المدن السورية، وأسهمت في إخراج أجيال من المثقفين والسياسيين منذ أواسط القرن التاسع عشر.
وفي العصر الحديث، كان للمسيحيين دور بارز في النضال من أجل الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، ثم في بناء الدولة الوطنية السورية. وفي بعض الأحيان، يُشار إلى أحداث عام 1860، التي شهدت أعمال عنف في جبل لبنان ودمشق ضد المسيحيين، بوصفها لحظة من لحظات الانفجار الطائفي. غير أن القراءة المتأنية لتلك الأحداث تكشف أن العوامل الطائفية لم تكن سوى غطاء لمواجهة أوسع، بين قوى محلية كانت تُستَخدم كأدوات في صراع دولي أعمق. لقد جاءت تلك المجازر في سياق تحوّلات سياسية داخل الدولة العثمانية، ومحاولات القوى الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وروسيا) بسط نفوذها في المنطقة، كلٌ تحت عباءة حماية الأقليات الدينية. وكانت للمسيحيين اللبنانيين، على وجه الخصوص، ارتباطات مختلفة بفرنسا والكنيسة الكاثوليكية، بينما حاولت الدولة العثمانية تقليص هذا النفوذ. فاندلع الصراع بداية في جبل لبنان نتيجة تنازع اقتصادي وإقطاعي بين الدروز والمسيحيين الموارنة، سرعان ما انتقل إلى دمشق.

لعل أحد أبرز ما يمنح الوجود المسيحي في سورية عمقه وتجذّره هو الجغرافيا، فالمسيحيون لا يعيشون في جيوب معزولة

وفي دمشق، لم تكن الفتنة دينية بقدر ما كانت انفجاراً لأزمات مركبة؛ اقتصادية، اجتماعية، وإدارية. وقد لعب العامل الخارجي، إلى جانب ضعف الدولة المركزية، دوراً في إذكاء الفوضى. ورغم فداحة ما حدث، فإن النخبة المسلمة الدمشقية سارعت إلى حماية جيرانها المسيحيين، بل إن عائلات دمشق العريقة كانت تتسابق لنجدة المسيحيين بمختلف الطرق، وساهمت في تخفيف الكارثة على أدنى مستوى لها، رغم أن الحي المسيحي سُوي بالأرض يومها. غير أن سنوات قليلة لم تتجاوز العشر كانت كفيلة بإعادة بناء ما تهدم، وعودة المسيحيين الذين فروا خارج المدينة إلى بيوتهم. وهو ما يؤكّد أن روح المدينة، في عمقها، كانت عصيّة على التطييف. لذلك، اختزال أحداث 1860 باعتبارها تعبيراً عن كراهية دينية هو تجاهل متعمد للسياق الجيوسياسي الذي نشأت فيه، وطمس متعمّد لدور القوى الدولية في إشعال التوترات الداخلية لخدمة مصالحها.
ومنذ عام 2011 وسورية بمختلف مكوناتها تتعرّض لواحدة من أعنف الأزمات في تاريخها الحديث. حين حوّل النظام البائد ثورة الشعب إلى حرب مزّقت البلاد، لم تفرّق بين مكوّن وآخر، لكنها حمّلت المسيحيين، كما غيرهم، أعباء الهجرة والاغتراب والدمار. ولا أحد يستطيع إنكار الهجمات على دور العبادة من جماعات تكفيرية عابرة للحدود، وخطف قساوسة ورهبان، ما أدّى إلى تناقص أعداد المسيحيين في سورية إلى نصف ما كان عليه قبل 2011، من 1.5 مليون إلى أقل من 700 ألف في بعض التقديرات الحديثة. والمدهش في هذا السياق صمود هذا المكوّن. لقد أعاد المسيحيون ترميم كنائسهم، ونظّموا مبادرات الإغاثة، وشاركوا في جهود المصالحة.
لعل أحد أبرز ما يمنح الوجود المسيحي في سورية عمقه وتجذّره هو الجغرافيا، فالمسيحيون لا يعيشون في جيوب معزولة، بل يتوزّعون في المدن الكبرى، كدمشق، وحلب، وحمص، واللاذقية، كما في الأرياف كوادي النصارى، وصيدنايا، ومعلولا، والجزيرة، وحوران. ويجعل هذا الامتداد الجغرافي من محاولة اقتلاعهم من البلاد أمراً مخالفاً للمنطق الحضاري. فهم، بحكم الواقع، مكوّن مؤسس في الجغرافيا الثقافية والاجتماعية، لا يمكن تصوّر سورية بدونهم، كما لا يمكن تصوّرهم إلا في سورية.
ليست المسيحية في سورية مجرّد حقيقة تاريخية، بل هي رمز لِما يمكن أن يكون عليه الشرق: تعدّدياً، متسامحاً، منفتحاً، يتفاعل مع العالم من دون أن يفقد هويته. وإذا كانت الهويات الدينية تُستخدم اليوم وقوداً في صراعات دولية وإقليمية، فإن النموذج السوري، على ما فيه من تعقيد، يثبت أن العيش المشترك ممكن، بل هو شرط البقاء.
ولذلك، ليست حماية الوجود المسيحي في سورية حماية لأقلية، بل هي دفاع عن سورية ذاتها، عن تاريخها ورمزيتها ودورها. وفي عالم تتزايد فيه دعوات إلى التطهير والانغلاق، تبقى سورية، رغم كل الجراح، قادرة على تقديم دروس في التعدد والأصالة الحضارية، من أنطاكية إلى معلولا، ومن وادي النصارى إلى سهول حوران وجبلها.

تزخر سورية  بالعديد من المواقع التي تحمل قدسية خاصة للحجاج المسيحيين

سورية أرضاً مقدسة في المسيحية

تعرّف "الأراضي المقدسة" في المسيحية عادة بأنها الأماكن التي شهدت أحداثًا محورية في حياة السيد المسيح ورسله، أو التي ارتبطت بقديسين ذات أهمية روحية. ورغم أن الأنظار غالبًا ما تتجه إلى فلسطين، إلا أن سورية بحدودها السياسية الحالية تحمل مكانة عظيمة على هذا الصعيد، وتُعد جزءاً من هذه الأراضي المقدسة، فهي لم تكن يوماً مجرّد معبر أو محطة في رحلة الإيمان المسيحي، بل كانت مسرحاً لأحداث جوهرية وشهدت ولادة عديدين من القدّيسين وشخصيات بارزة في تاريخ المسيحية.
وتنبع قدسية سورية في المفهوم المسيحي من عدة أسباب أهمها رحلات السيد المسيح وتبشيره، حيث تجمع المصادر أن المسيح زار أجزاء من سورية، وخصوصاً منطقة الجولان، وبشّر فيها وصنع المعجزات. وتركت هذه الزيارات بصمة عميقة في تاريخ المسيحية المبكر. ويمكن القول إن علاقة يسوع بالجولان بدأت مبكّراً، فقد كان يوسف النجار، خطيب مريم العذراء ووالد يسوع بالتبنّي، صديق زبدي، والد الأخوين يعقوب ويوحنا، اللذين كانا في عمر يسوع تقريباً، ومن أبناء بيت صيدا الجولانية، والتقى الثلاثة يسوع ويعقوب ويوحنا، على طريق الحج إلى القدس، حين حج يسوع لأول مرة . 
وتوطدت هذه العلاقة لاحقاً، مع هذين الأخوين، وثلاثة آخرين، هم أيضا من أبناء بيت صيدا وهم : فيليب، والأخوان سمعان وأندراوس، فقد لجأ يسوع إلى بيت صيدا، عابرا نهر الأردن، حين علم باعتقال يوحنا المعمدان وسجنه، وتعرف هناك على هؤلاء الخمسة، الذين كان صيد السمك مهنتهم، ودعاهم إلى إتّباعه، فلبّوا دعوته حالاً، وأصبحوا من تلاميذه الاثني عشر، حتى أن الثلاثي، سمعان ويعقوب ويوحنا، صاروا من أقرب المقرّبين إليه.
وبحسب الموروث المسيحي؛ نالت منطقة الجولان شرف زيارة يسوع المسيح مواقع عديدة فيها، فبالإضافة إلى بيت صيدا، التي كان يتردّد عليها باستمرار، زار الكرسي، وبانياس الجولان، التي كانت تعرف باسم قيصرية فيليبي، وصعد إلى جبل حرمون، وعبر الجولان، في طريقه من صور وصيدا، إلى منطقة المدن العشرة، أو ما يعرف بالديكابولس، التي كان جنوب الجولان جزءاً منها. وتجول في بعض مدنها، وعاد من هناك إلى الجليل عبر فيق وسوسيا، في جنوبي الجولان.
ولذلك فإن سورية تزخر بالعديد من المواقع التي تحمل قدسية خاصة للحجاج المسيحيين، ومن أبرزها: قيصرية فيليبي (بانياس): تقع هذه المدينة الأثرية في الجولان السوري المحتل، وكانت شاهدةً على اعتراف القدّيس بطرس بالمسيح كابن الله، وهي حادثة ذات أهمية لاهوتية كبرى في الإنجيل. وبيت صيدا: هذه القرية التي تقع على الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا، وتحديداً في البطيحة منطقة الجولان السوري المحتل، فبالاضافة إلى أنها موطنٌ لخمية من تلاميذ المسيح المهمين، يُعتقد أن المسيح قام فيها بمعجزاتٍ عديدة، مثل شفاء الأعمى وإطعام الجموع بالخبز والسمك. وأيضاً فيها موقع جرجيسا (الكُرسِي): المدينة التي تقع أيضاً على الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا، في الجولان السوري المحتل، وهي المكان الذي يُعتقد أن المسيح طرد فيه الشياطين من الرجلين الممسوسين وأرسلها إلى قطيع الخنازير الذي اندفع في البحيرة.
بالإضافة إلى هذه المواقع الثلاثة، يعد الشارع المستقيم  في قلب دمشق القديمة معلماً مسيحيّاً بارزاً، حيث يُذكر في سفر أعمال الرسل أنه المكان الذي أقام فيه حنانيا بعدما ظهر له الرب وأمره بالذهاب إلى شاول الطرسوسي (بولس لاحقًا) ليرد إليه بصره. وأيضاً هناك موقع ظهور المسيح لبولس (خارج دمشق)، حيث يُعتقد أن هذا الموقع، في ريف دمشق قرب عرطوز، هو المكان الذي ظهر فيه المسيح لشاول الطرسوسي، وهو في طريقه لاضطهاد المسيحيين، ففقده بصره ثم تحوّل إلى بولس الرسول العظيم، مبشر الأمم. وهي حادثة غيرت مجرى تاريخ المسيحية.
هذه الأماكن وما ارتبط فيها من أحداث، بالإضافة إلى كنائس وأديرة عريقة تنتشر في ربوع سورية، تؤكّد على أن هذه الأرض هي بالفعل مهد للمسيحية وعمق تاريخي وروحاني لا يمكن تجاهله عند الحديث عن "الأراضي المقدسة"، فسورية ليست مجرّد متحف للتاريخ المسيحي، بل هي من المواطن التي ساهمت في احتضان الرسالة المسيحية، وشاهد حي على استمرارية الإيمان وقصص التضحية والإلهام التي شكلت جوهر المسيحية عبر العصور.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows