
توزّعت مشاريع الترجمة في العالم العربي خلال العقود الأخيرة بين مبادرات وطنية تهدف إلى خدمة السوق المحلية، وأخرى ذات طابع عربي أشمل تحاول بناء مكتبة معرفية تتجاوز الحدود القُطرية. ومع اتساع هذه المشاريع وتنوعها، يظل سؤال الأدب وموقعه منها مطروحاً بقوة: لماذا يبقى الأدب في الهامش غالباً ضمن أولويات هذه المؤسسات الكبرى؟
تحفيز حركة الترجمة
في فئة المشاريع العربية، أو القومية، إن جازت التسمية، تظهر جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، التي انطلقت من الدوحة عام 2015. الجائزة ليست جهة نشر مباشر، لكنها تحفز حركة الترجمة عبر تقديم جوائز مالية كبيرة سنوياً تصل إلى مليوني دولار موزعة على فئات متعددة، تشمل الترجمة من العربية وإليها مع أكثر من 12 لغة. في أقل من عقد، دعمت الجائزة ترجمة مئات الأعمال بشكل غير مباشر، وساهمت في رفع مكانة المترجمين العرب عالمياً. ومع ذلك، يغيب التركيز على الأدب من دون أن ننسى أن أغلبية من فاز بها هم مترجمون بارزون عرّفوا القارئ العربي باشتغالات أدبية عديدة.
يُضاف إلى ذلك مشروع "ترجمان" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، وهو سلسلة بدأت عام 2011، وبلغ عدد عناوينها حتى منتصف 2025 أكثر من 200 كتاب، تغطي مجالات الفكر السياسي والعلوم الاجتماعية والفلسفة والتاريخ، مع حرص على اختيار الأعمال ذات القيمة المعرفية العالية. لكن يغيب الأدب عن حقل اهتمامات هذا المشروع العربي الكبير والمتخصّص كلّياً بالعلوم الإنسانية.
ارتباط بالمبادرات الخاصة
في السعودية، تبرز عدة مؤسسات تدعم الترجمة وتعمل على إثراء المحتوى المعرفي العربي، منها مكتبة الملك عبد العزيز العامة التي تصدر سلسلة كتب مترجمة في مجالات العلوم الإنسانية والفلسفة، كما تلعب هيئة الأدب والنشر والترجمة التابعة لوزارة الثقافة دوراً مهماً في دعم مشاريع الترجمة، لكن هذه الأخيرة تكتفي بسوقها السعودي الكبير عبر معارضه ومكتباته ولا تسجّل حضوراً عربياً في متناول عموم القرّاء، أو الوصول إلى "الشوارع الخلفية" من المشهد، ما يعزز الانطباع أن ترجمة الأدب تظل حتى الآن مرتبطة أكثر بذائقة الناشرين والمبادرات التجارية لا بالمؤسسات الكبرى.
تساؤلات كثيرة تُطرح بشأن غياب مشروع يكرس ترجمة الأدب عربياً
في تونس، يبرز مشروع "بيت الحكمة"، التابع للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، الذي يركز على ترجمة الأعمال الفكرية والفلسفية الكبرى، مع بعض الإصدارات في العلوم الإنسانية. هذا المشروع يخدم النخبة الثقافية والفكرية داخل تونس أساساً، ويطرح بدوره تساؤلاً حول دور الأدب ضمن هذه الترجمة. أما في مصر، فإن "المشروع القومي للترجمة"، الذي أطلقه المركز القومي للترجمة عام 2006، يعد من أكبر المشاريع الوطنية في العالم العربي. تجاوز عدد إصداراته حتى منتصف 2025 أكثر من 1700 كتاب في مجالات متعددة، من الفلسفة إلى الاقتصاد والعلوم والآداب. ورغم اتساع نطاق الإصدارات، يبقى الأدب حاضراً بنسبة أقل مقارنة بالعلوم الإنسانية والفكرية.
في المقابل، يظهر مشروع "كلمة"، التابع لدائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي مثالاً واضحاً على مشروع عربي الطابع رغم انطلاقه من الإمارات. المشروع الذي بدأ عام 2007، تجاوز عدد إصداراته 1200 كتاب حتى الآن، تشمل ميادين الأدب والفلسفة والفنون والعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية. وهذا المشروع من المشاريع القليلة التي تحاول دمج الأدب بشكل ملحوظ ضمن منظومة الترجمة الكبرى، رغم أن الأدب ليس محوراً حصرياً.
استثناءات نسبية
على مستوى المشاريع الوطنية، تحافظ الكويت على دور ريادي منذ عقود عبر سلسلة "عالم المعرفة" التي انطلقت عام 1978 وتجاوز عدد إصداراتها 500 كتاب حتى الآن، بواقع كتاب شهري تقريباً، تشمل عناوين في الفلسفة والعلوم الطبيعية والتكنولوجيا والفكر والأدب، وتُكملها سلسلة "إبداعات عالمية" التي تركز على الأعمال المسرحية والروائية العالمية، وقد أصدرت حتى اليوم أكثر من 150 عنواناً. هذه المشاريع تمثل استثناءً نسبيّاً بمحاولتها التوازن بين العلوم والفكر والأدب.
في سورية، يستمر المشروع الوطني للترجمة التابع لوزارة الثقافة، الذي تأسس رسميّاً في أوائل الألفية. بلغ عدد الكتب التي أصدرها المشروع أكثر من 350 عنواناً حتى 2024، مع تركيز على مجالات الفلسفة، العلوم الاجتماعية، والتاريخ، والفكر السياسي. وعلى الرغم من الدمار والتجريف الذي ألمّ بالبلاد، يستمر المشروع بوتيرة منتظمة نسبيّاً، إلا أن الأدب يبقى غائباً إلى حدّ ما، ضمن إصداراته، ما يثير تساؤلات عن ضرورة وجود مشروع موازٍ يكرس ترجمة الأدب في سورية أو في العالم العربي بشكل عام.
يتكرر السؤال نفسه مع كل مشروع: كيف يمكن لمشاريع الترجمة العربية أن تعطي الأدب حقه في قائمة الأولويات، وتصبح له مكانته الواضحة ضمن هذه المشاريع الكبرى؟ وهل هناك إمكانية لإنشاء مشاريع عربية كبرى مخصصة فقط لترجمة الأدب؟ أم أنّ الأدب بطبيعته، بما يحمله من ذاتية وتجريب، لا يصلح لأن يكون مشروعاً قومياً مؤسسياً؟ وبالتالي سيبقى مصيره مرتبطاً بالمغامرات الفردية ودُور النشر الخاصة.
