السائق تحت المخدّر...
Arab
1 week ago
share

ذهبت المذيعة المصرية النبيهة إلى أحد كمائن الشرطة، وأجرت حواراً مع مواطن حصل على مخالفة قيادة في عكس الاتجاه. سألته بدهشة كيف سوّلت له نفسه أن يفعل ذلك وسط العاصمة؟ فأجاب: "الدنيا زحمة"، وأنه يريد أن يصل. أخبرته في لهجة نصف شامتة بأن الشرطة سوف تسحب منه رخصة القيادة، فأجاب في لا مبالاة: "يسحبوها، لا يهمّني، وإذا أرادوا أن يسحبوا الموتوسيكل، ليسحبوه، وإذا أرادوا الغرامة، سأدفعها". اغتاظت المذيعة، وسألته عن سرّ سعادته بمخالفة القوانين، فأجاب بأنه غير سعيد، لكنه يريد "الخلاص". عادت لتزايد على مدى التزامه بالقانون، فأجاب من دون لحظة تفكير واحدة: "حين يلتزم رئيس الوزراء سنلتزم جميعاً".
كان الحوار في عام 2014، وكان عبد الفتاح السيسي الرئيس الفعلي للبلاد، لكن من دون إعلان رسمي، وأرادت المذيعة أن تقول إن البلد بحاجةٍ إلى مزيد من الضبط والربط، وأن عودة الشرطة لمطاردة "الماشين عكس" هي بداية الطريق. ولذلك، لم يفتها في أثناء الحوار المزايدة على المواطن بأنه لم يكن يستطيع أن يرتكب هذه المخالفة قبل "كده"، أي قبل ثورة يناير (2011) وتداعياتها، لكنّه أجابها، بثقة، بأنه كان يفعل ذلك طوال الوقت، وأنه سوف يفعل ذلك طوال الوقت، إلى أن ينضبط الحال، وإلى أن يلتزم المسؤول، وإلى أن يسمع منا. ولم يفت المذيعة الوطنية أن تختم حوارها بسؤال استنكاري: "وما دخل رئيس الوزراء بما يحدث؟".
كان المواطن بطل الحوار الشهير، الذي انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، موظفاً بسيطاً، يركب درّاجة نارية من أرخص الأنواع، لا يريد أن يتحدّى الدولة، ولا قِبل له بذلك، لكنّه يريد حلاً، وليس لدى الدولة حلول، وإنما لديها شرطة، تلاحق، وتعاقب، وتحصّل غرامات، ولديها جيش يحول دون محاولات المواطنين إيجاد أنظمة لديها حلول، وإعلام يخدم ذلك كلّه باتهام المواطن، وملاحقته مع الشرطة، وتوبيخه، وتهديده، ونفي أيّ مسؤولية على الدولة، فالدولة جهاز ضبط لا رعاية. الزحام مشكلة من؟ الإجابة البديهية: إنه مشكلة من يخطّط الطرق بناءً على احتياجاته، وعلى تحدّياته، وعلى عدد السكّان، الذي لم يفاجأ به المسؤول صباح جلوسه في كرسي الحكم أو الوزارة. لكن إجابة الدولة الدائمة أن المشكلة لدى الشعب؛ فالشعب يُنجب، ويزداد، فإذا سألنا عن حقوقه، سألناه عن تحديد النسل. هكذا يقول السيسي في خطاب رسمي، وعلى الهواء مباشرة، فما بالك بمن دونه من الوزراء والمحافظين!
لا أحد يخدع الناس إلى النهاية، ولا شيء يُخيفهم إلى النهاية، ليس لأنهم واعون أو شجعان بما يكفي، لكن لأن ضغوط التجربة اليومية تتجاوز دعايات الخوف، وبروباغاندا "الخير قادم يوماً ما"، وتفرض نفسها وحلولها فرضاً. لقد تعوّدنا أن كلّ محاولات الاقتراب من الرئيس يقوم بها "مختلون عقلياً"، وكلّ الحرائق سببها "تماسّ كهربائي"، وسبب كلّ الحوادث سائق يشرب المخدّرات، وسبب كلّ زيادات الأسعار "ربّنا"، لا شيء يرجع إلى الدولة، فالمسؤول هو المواطن، أو الإله نفسه، لكن ليس الرئيس، أو "شيء" من حواشيه.
لعلك تابعت أخبار حادث المنوفية، الذي راح ضحيّته 18 فتاة، أغلبهن قاصرات، كنَّ في الطريق إلى عملهن في حقول العنب. ولعلك تابعت تعليقات هنا وهناك، تعليقات تُحمّل وزير النقل، كامل الوزير، المسؤولية، وأخرى تحمّلها للرئيس، الذي أتى بالوزير ومنحه بدلاً من الوزارة اثنتَين. ولعلك تابعت تعليقاتٍ تتحدّث عن "طريق الموت"، وعدد الحوادث عليه يومياً، كما لعلك تابعت تصريحات الوزير نفسه، الذي قال إنه غير مسؤول، وأن السائق هو المسؤول، وأن المخدّرات هي السبب، وأنه لن يترك منصبه، وأنه مقاتل وأنه فلاح.
والحقيقة أن هذه التعليقات (على أهميتها) لا تحمل جديداً، وسوف تتجاوزها "الهوجة"، ويستمرّ الوزير أو يرحل، ويستمرّ غيره في طريق الموت نفسه. لكن تعليقاً وحيداً يستحقّ الالتفات، لأنه يعكس المأساة كلّها، وهو تعليق والد إحدى شهيدات الحادث، حين سألته المذيعة: "بماذا تطالب؟"، فردّ الرجل: "لا أعرف".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows