"تكتبين كرجل"
Arab
1 week ago
share

"إنها تكتب كرجل". ... استُخدمت هذه العبارة في وصف الكاتبة مارغريت يورسنار، بعد نشرها رواية "مذكّرات أدريان" (1951)، إذ تلبّست صوت الإمبراطور الروماني أدريانوس، متحدّثاً عن حياته وحكمه وفلسفته، وكان هذا أفضل تعبير عن نظرة أدبية وثقافية منحازة ضمناً إلى فكرة أن الكتابة العميقة، المتّزنة، ذات النَفَس الفلسفي والسياسي، إنما هي من خصائص "الكتابة الرجالية"، في حين ترتبط "الكتابة النسائية" بالعاطفي أو الحميمي أو الذاتي. قلبت يورسنار هذه التوقّعات، فكتبت عملاً تأمّلياً تاريخياً من منظور رجل في موقع سلطة، متقمّصة بشكل مذهل صوته الداخلي.
اليوم، وقد دعسنا (نحن العرب) عتبة الربع الثاني من القرن الواحد والعشرين، ما زلنا نسمع الجملة نفسها تُردَّد بشأن كاتباتٍ اخترن طريقاً مختلفاً، مصحوبةً بشيء من تشكيك بأنوثةٍ تريد أن تتجاوز حدودها إلى ما يعدوها، وكأنّ ما يُنتج من فكر وتأمّل وتحليل، خارج عاطفة "الأنثى المفترضة"، لا بد أن يكون منسوباً إلى الرجولة. "تكتبين كرجل"، جملة تبقى مشبعة بتشكيك وإنكار ضمنيَّين لشرعية الأنوثة المفكّرة ومقدراتها. وإن كانت في العمق تتضمّن إعجاباً وتقديراً، فذلك لأنها تقول في عمقها إن مقاييس الكتابة العظيمة لطالما كانت حكراً على عقول عبقرية يمتاز بها الرجال، لا تلك الكائنات الصغيرة الهشّة محصورة العيش في أطر حيواتها المحدودة الضيّقة. النظرة هذه لم يُلغها دخولُ الكاتبة العربية معترك الأدب من بابه العريض، وهي ما زالت تتسلّل إلى قراءات النقّاد ومعايير حكمهم على العمل الأدبي، وأحياناً إلى وعي الكاتبات أنفسهن، ما يضطرهن إلى الدفاع عن "شرعية" كتابتهن، كما لو كانت خيانة لجنسهنّ أو لانتمائهن.
ومع أننا أصبحنا ما بعد "النسوية الثالثة" و"الرابعة"، لا تزال عبارة مثل "تكتب كرجل" حيّةً، وما هو أخطر من ظهورها عفوياً استمرارُ تصنيف الكاتبات بحسب موضوعاتهن أو أساليبهن، لا بحسب عمق كتابتهن أو قوتها الفكرية، ذلك أنها، في جوهرها، اعترافٌ بعجز قارئٍ، رجلاً كان أم امرأةً، عن تصوّر أن للمرأة فكراً متماسكاً واسعاً يعدو قضايا جنسها. وبما أننا لم نُحرّر الكتابة بعد من ثنائية النوع، تظلّ الكاتبة العربية التي تخرج عن المألوف، أي التي لا تكتب حصرياً عن الحبّ والجسد والعلاقات المأزومة بالآخر والظلم الذي تعانيه المرأة، بل عن الأفكار والمصائر والأسئلة الإنسانية الكبرى، كائناً ملتبس الهُويَّة، لا يُشبه "الكاتبات"، لكنّه لا يُشبه "الكتّاب" أيضاً. فحين تكتب امرأة خارج وسوم الجندر، أي حين لا تكتب عن الجسد والحبّ والانكسارات العاطفية والأمومة... إلخ، هي لا تُقرَأ أنثى تفكّر، بل بوصفها "امرأةً تتلبّس صوت رجل"، ما يضعها مباشرة في مرتبة جنسٍ ثالث، بين نساء "يكتبن كامرأة"، ورجال يفترض أنهم يملكون سلطة السرد والفكر وتحليل العالم. نوع ثالث مبهم، مُعلّق، بلا نسبٍ أدبي، ولا نسبٍ رمزي. أنثى تُفكّر، لكن بشروط الرجولة الثقافية، وهذا التوصيف وحده كافٍ لفضح هشاشة التصنيفات التي تحكم الذائقة والنقد.
العالم تخلّى عن مثل هذه التصنيفات بعد بزوغ أسماء كاتبات مثل مارغريت يورسونار وفيرجينيا وولف وجوليا كريستيفا وتوني موريسون وسواهن. لكن، حين تكون الكاتبة عربية، تتكثّف القيود ويتضاعف الشكّ، فلا يُطاوَل فكرها فقط، بل يُستدعى جسدها، وسلوكها، وانتماؤها، ولهجتها، وأسلوبها، وحتى "واجبها الرمزي" تجاه اللغة والمجتمع. تصبح تهديداً مركّباً تُقلق النظام الأبوي لأنها تُفكّر، وتُربك التمثيلات الثقافية لأنها لا تكتب كامرأة "تُمثّلنا". فالكتابة الجادّة، حين تخرج من جسدٍ عربيٍّ أنثويّ، لا تُستقبَل إضافةً، بل تمرّداً على النظام الرمزي نفسه: من يُمثّل من؟ ومن يملك شرعية الرؤية؟ هكذا تُحاكَم الكاتبة العربية "المختلفة" لا على ما كتبت، بل على ما تجاهلته و"كان عليها أن تكتبه" وتكتفي به. تُربَط حريّتها بلغتها، ولغتها بجسدها، وجسدها بجماعة تنتظر منها "السويّة" الجمالية والأخلاقية، "الدخول في الصف"، و"التفكير داخل الصندوق". هي ليست فقط نوعاً ثالثاً، بل صوتٌ بلا حماية، ومخيلة تُهدِّد القوانين الشرعية والقوالب المعتمَدة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows