
قال جمال عبد الناصر في أغسطس/ آب 1970 للعقيد معمّر القذافي: "إذا عدّينا القناة بنهزّ إسرائيل، وبنهزّ الشرق الأوسط، وبنهزّ الدنيا كلّها، لكن مش ح نقدر نعبر القناة طالما عندهم تفوق جوي ومش عارفين نضبطه". وتُلخص هذه الكلمات حقيقة الفجوة المعرفية والتقنية التي مكّنت إسرائيل من صناعة كيانها ودولتها بالقوة، في وسط محيط عربي يعيش فيه عشرات الملايين من المُعادين لها، إذ اكتشف العقل الاستعماري الصهيوني أن التفوق والتميّز الدائم (واللامتناهي) على الجيران أفضل وسيلة ممكنة لدوام الكيان الصهيوني وتوسّعه، وفرضه على المحيط العربي. وكان عبّاس محمود العقاد (توفي في 1964)، قد وصف تلك الحالة في كتابه "الصهيونية العالمية"، بقوله "إن تعجيز العرب أجمعين عن مجاراة إسرائيل وحدها في ميدان الصناعة والتقدّم أفدح خطوب الاستعمار منذ وُجد الاستعمار"، فمفتاح عمل الكيان الصهيوني لن يكتفي بتحقيق التفوق الاقتصادي والعسكري، بل سيحرص على استخدام تلك القوة المتقدّمة في تجريد جيرانه من أيٍّ من مظاهر الاستقرار والقوة، وصولاً إلى حرصه على تفكيك الدول والمجتمعات، وجعلها في حالة فوضى وتخلّف دائمَين، فالاستعمار الصهيوني هو "قوة مُستعمِرة أخطر من جميع المُستعمِرين"، كما وصفها العقّاد.
المشروع الصهيوني لا يمكن له البقاء من دون حرب ومختبرات يومية لقتل الفلسطينيين
ومن ثمّ، لا تسعى إسرائيل من مراكمة (واحتكار) القوة المتفوقة والمدمّرة إلى مجرّد حماية سكّانها و"حدودها"، بل لن ترضى حتى تُحوّل المحيط العربي القائم حولها إلى بلدان تابعة مباشرة لها، وهو ما يذكره نتنياهو باستمرار، حين يقول إنه يسعى إلى تغيير الشرق الأوسط بالكامل، والبداية من اجتثاث كلّ حركات وقوى المقاومة والتحرّر الوطني، والتي تقف حجر عثرة أمام المشروع الاستيطاني متعدي الحدود.
ويشكّل التفوق الإسرائيلي فجوةً زمنيةً ومعرفيةً لا يمكن القضاء عليها بسهولة، ويمكن تفسير ذلك عندما نعرف أن إسرائيل نجحت في أن تصبح مركزاً رأسمالياً قوياً، الأمر الذي انعكس في أدائها الاقتصادي المتميّز، إذ بلغ نصيب الفرد (وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي) أكثر من 57 ألف دولار من إجمالي الناتج المحلّي السنوي، وهو الأعلى في منطقة الشرق الأوسط، ويجعلها في مصاف الدول مرتفعة الدخل، نتيجة الدعم اللامحدود من البلدان الغربية، وهجرة رأس المال، والعقول اليهودية الأوروبية، واهتمام الاقتصاد الإسرائيلي بالربط الوثيق بين البحث العلمي والتقنية العسكرية. فوفقاً للمؤشّر العالمي للابتكار (GII)، تتصدّر إسرائيل جميع الدول في نسبة ما تنفقه من الناتج المحلّي على البحث والابتكار العلمي (6%، ويُعَدّ من أعلى الأرقام عالمياً). ونظراً إلى التفوق في احتكار المعرفة التقنية العسكرية، فإن الحرب مفيدة للاقتصاد والدولة في إسرائيل، إذ يُدرّ اقتصاد صناعة السلاح المتطوّر أرباحاً كبيرة. ووفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، تحتلّ إسرائيل المركز الثامن عالمياً في تصدير السلاح وتقنياته، وتأتي ثلاث شركات إسرائيلية لتصنيع الأسلحة المتطوّرة في مصاف أعلى مائة شركة سلاح على مستوى العالم، وقد حققت تلك الشركات الثلاث أرباحاً قياسية منذ بدء العدوان على غزّة في 2023، إذ حقّقت تلك الشركات وحدها 13.6 مليار دولار في أقلّ من عام، فالإقبال الشديد على السلاح الإسرائيلي يرجع إلى أنه مُجَربٌ ميدانياً، إذ تفتح إسرائيل ساحتي الحرب والقمع بشكل دائم لتجرّب أسلحتها وتبيعها، بينما تحقّق أهدافها التوسّعية، ولم تؤثّر دعوات المقاطعة والحظر على مبيعات السلاح الإسرائيلي عالمياً، فقد شهدت هذه الشركات الثلاث معاً زيادة بأكثر من 25% في قيمة الطلبيات المتراكمة لتصل إلى ما يعادل 63 مليار دولار في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2024، مقارنة بإجمالي العام السابق.
لن تكفّ إسرائيل عن القمع والحرب أو حتى التهديد والتحرّش، فقد امتلكت ما تُرهب به شعوب المنطقة
وكان مسؤول في وزارة الدفاع السلوفاكية قد صرّح لصحيفة وول ستريت جورنال، عقب توقيع صفقة أسلحة إسرائيلية، بقوله: "المهم جدّاً أن تكون الدولة المورّدة قد استخدمت القدرة الدفاعية التي تعرضها علينا"، وهو الأمر الذي علّقت عليه الصحيفة بالقول: "جذبت أكثر من 15 شهراً من الحرب اهتمام المشترين الأجانب الذين شاهدوا كيف اختُبرت هذه الأسلحة فعلياً في ميدان المعركة". وتُثبت قراءة الأحداث أن المشروع الصهيوني لا يمكن له البقاء من دون حرب، أو فتح مختبرات يومية لقتل الفلسطينيين، أو مراقبتهم وحصارهم والتنكيل بهم. ووفقاً للكاتب اليهودي أنتوني لوينشتاين، أصبحت إسرائيل "رائدةً في تقنيات الحرب والتجسّس التي تُغذّي صراعات العالم الأكثر وحشيةً، فتتبنى معادلة تجمع بين القمع والربح". ومن ثمّ، لن تنفكّ تلك المعادلة، ولن تكفّ إسرائيل عن القمع والحرب أو حتى التهديد والتحرّش، فقد امتلكت ما تُخيف (وتُرهب) به شعوب المنطقة، فهي ضرورات اقتصادية وأيديولوجية وسياسية لها، خاصّة بعد هزيمة أغلب جبهات المقاومة.
حلّ ذلك التحدّي التاريخي يتمثّل في نصيحة لنهضة العرب، وجّهها محمد علي علوبة باشا، السياسي المصري البارز عام 1942، عندما قال: "وسائل النهوض ليست من أسرار الكون، فهي تكاد تنحصر في عاملَين أساسيَّين: العدل والعلم"، علاوة على اعتبار القضية الفلسطينية بوصلةَ الخلاص من خطر المشروع الصهيوني"، أو كما قال جمال حمدان: "تحرير فلسطين هو وحدة العالم العربي السياسية، ووحدة العالم العربي هي فلسطين".

Related News

