سلخ الفلسطينيين عن امتدادهم الطبيعي
Arab
1 week ago
share

وجد فلسطينيو الـ 48 أنفسهم في رُزمةٍ من المآزق السياسية والحياتية في أعقاب السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، من أبرزها تطبيق المزيد من القمع، وتضييق الخناق، ومراقبة حيّزات التحرُّك والنشاط المتعلِّق بطبيعة حياة الفلسطينيين الواقعين تحت حكم إسرائيل منذ نكبة عام 1948، حين فرضت الهَويّة الإسرائيلية على من نجح في البقاء في أرضه من الفلسطينيين، ويُقَدَّر عددهم بحوالي 150 ألفٍ فقط. تبنّت حكومات إسرائيل المتعاقبة سياسات العزل المعيشي، وفرض قيودٍ مختلفةٍ عليهم، ومنذ ذلك العام بُنيّت العلاقة على مدٍّ وجزرٍ في تعامل الدولة مع الفلسطينيين فيها وبالعكس، باعتبارهم شوكةً في حلق الدولة، وحجر عثرةٍ أمام اكتمال المشروع الصهيوني، الهادف إلى تطهير كامل الأرض من الغرباء، وإخضاعها للدولة اليهودية. ولأنّ هذا التوجه الفكري والعملي لم يكتمل بالتمام؛ بقيت سياسة "العصا والجزرة" قائمةً إلى يومنا هذا.

إنّ الهدف من الإخضاع هو سلخ الفلسطينيين في إسرائيل عن امتدادهم الطبيعي مع شعبهم المنتشر في الضفّة الغربية، وقطاع غزّة، والقدس الشرقية (أيّ باقي أجزاء فلسطين التاريخية)، وأيضًا عن أيّ تواصلٍ مع البلدان المجاورة. من هنا، تكشّفت خطط هذه الحكومات في خلق فلسطينيٍ جديدٍ من دون أن يكون مرتبطًا عضويةً مع فلسطينيته، ولا أن يكون مرتبطًا كليًا مع بنية الدولة اليهودية. سعت عملية الإخضاع، التي كونتها وتبنتها حكومات إسرائيل المتعاقبة، إلى تجريد فلسطينيي الـ 48 من هويتهم الوطنية والقومية، ومن علاقتهم التاريخية بوطنهم وشعبهم، وإقناعهم بأنّ صلتهم أو تواصلهم غير ممكنٍ مع شعبهم، وهي مسألةٌ محسومةٌ، وبأنّ صلتهم مع دولتهم "إسرائيل" فقط، من دون أنْ تعترف – حكومة إسرائيل – بكونهم فلسطينيين، إنّما أقليةٌ غير يهوديةٍ (وفقًا لتعريفات الدولة الرسمية).

بالرغم من التحولات السياسية في مسار العلاقة بين إسرائيل والقيادة الفلسطينية (م.ت.ف) وصولاً إلى اتّفاقيات أوسلو، ترك هذا المسار أثره السلبي على علاقة الدولة (إسرائيل) والفلسطينيين فيها، أيّ فلسطينيي الـ 48، لأنّ إسرائيل تعتبرهم مواطنين من درجةٍ أقلّ من مواطنيها اليهود، ولأنّها تعتبرهم أقليةً غير يهوديةٍ، وأيضًا تنظر إليهم من منظور طوائف غير يهوديةٍ (هكذا ورد في نص تصريح بلفور عام 1917)، فإنّ سياساتها تعمل على قاعدة عدم المساواة في ميزانيات البلدات الفلسطينية، وفي المؤسسات الرسمية العاملة في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، كالمدارس والكليات والمراكز الثقافية والخدمية على أنواعها. كما يمكن ملاحظة ذلك من خلال مراجعةٍ خاطفةٍ لميزانيات كلّ بلدةٍ فلسطينيةٍ ومن ثمّ مقارنتها مع بلدةٍ يهوديةٍ توازيها من حيث عدد سكانها.

خطةٌ أخرى جديدةٌ - قديمةٌ يتحدثون عنها في الآونة الأخيرة، هي العمل على تفريغ النقب، جنوبي فلسطين، من أهله وسكانه الأصليين، أيّ بدو النقب

تتبنّى خطط التضييق هذه الحكومة الإسرائيلية الحالية، المؤلفة من أحزابٍ يمينيةٍ متطرّفةٍ جدًّا، لذا خلقت واقعًا من إهمالٍ مُمنهجٍ ومقصودٍ، كما في عدم توفير الخدمات اللازمة والمطلوبة للسلطات المحلية والبلدية ومؤسساتها، ما يساهم في خلق أرضيةٍ لمزيدٍ من الفراغ في الحياة الاجتماعية، ثمّ إلى الجنوح نحو الجريمة، العنف والقتل المتفشي في المجتمع الفلسطيني في الداخل.

بات من الواضح للقاصي والداني أنّ إحدى أبرز خطط حكومة إسرائيل الحالية، كما سابقاتها، هي السعي إلى التخلّص من فلسطيني الـ48، ويعني ذلك أنّ منهجية إسرائيل في تصفية القضية الفلسطينية ليست ذات وجهة واحدة، إنّما متعددة الوجهات والأدوات، ففي الوقت الذي تنفِّذ فيه إبادة جماعية في قطاع غزّة، وسط صمتٍ عالميٍ وعربيٍ رهيب أقرب إلى التوافق وليس العجز، تنفّذ  هذه الحكومة عمليات تصفية لمخيّمات اللاجئين في الضفّة الغربية، وتعتبر سكان القدس من الفلسطينيين من درجة ثانية، بالرغم من تعريفها لهذه المدينة بكونها موحدة، وتحت سلطة إسرائيل، كما أنّها عاصمتها الأبدية؛ وفقًا لها، رافضةً اعتبارها من حق الفلسطينيين. وتأتي منهجية التعامل مع فلسطينيي الـ 48 بطريقةٍ مختلفةٍ عن تعاملها مع سائر الفلسطينيين في تجمُّعاتهم المختلفة، لأن حكومة إسرائيل تعتبر فلسطينيي الـ 48 مواطنين فيها، يحملون الهَوية والجنسية الإسرائيلية. لهذا، تسعى إلى تنفيذ خطط تفكيك المجتمع الفلسطيني داخليًا، وإلصاق صفة مجتمعٍ مخالفٍ للقوانين، ومجرمٍ وعنيفٍ به. يتجلّى ذلك من خلال قيام حكومة إسرائيل بإصدار أوامر إخلاء، وهدم لمنازل فلسطينية في قرى ومدن فلسطينية في الداخل، أنشئت من دون ترخيصٍ رسميٍ، وهذا مخالفٌ للقوانين المعمول بها، لكن المتمعن في الأمر سيلحظ بسرعةٍ أنّ الحكومة الإسرائيلية؛ ومن منطلق خططها بتخفيف الحضور البشري الفلسطيني، لا تصادق على خرائط هيكلية تتيح توفير تراخيص بناء للفلسطينيين، فيضطر المواطن الفلسطيني إلى البناء من دون ترخيصٍ، لأنّه يريد أن يؤسس حياته، وحياة أبنائه في المستقبل، ليحافظ على بقائه في وطنه، فتكون له الدولة بالمرصاد. هذا يعني تقليص حيّز الحياة، وعدم توفير أيّ حلولٍ سكنيةٍ تسمح للمواطن الفلسطيني بالبقاء على أرضه، ومن ثمّ يتركها ليعيش في مدن إسرائيلية، حيث يشتري شقةً صغيرةً وضيقةً بثمنٍ باهظٍـ، أو أن يهاجر من وطنه إلى أيّ مكانٍ آخر في العالم، قد نسمي هذه الظاهرة الآخذة بالتفاقم بـ"التهجير الطوعي".

خطةٌ أخرى (غير معلنةٍ طبعًا)؛ إتاحة الطريق لسيولة الجريمة في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، إذ يتعرّض هذا المجتمع، ومنذ سنواتٍ، إلى أعمال عنفٍ ضدّ النساء والشباب، وقتلٍ وعنفٍ غير مسبوقٍ، إذ بلغ عدد القتلى منذ بداية العام الحالي حتّى كتابة هذه المقالة نحو 122 ضحيةٍ على خلفياتٍ جنائيةٍ وانتقاميةٍ، وأحيانًا يكون الضحايا من الأبرياء، يتمّ ذلك كلّه تحت أعين الشرطة وقوات الأمن الأخرى، التي لا تعمل على اجتثاث الجريمة، بل يتركون الفلسطينيين في الداخل يئنّون تحت وطأة الجرح والألم من وسائل الحفاظ على السلم الأهلي. ومن ثمّ تتّسع ظاهرة العنف والنزاعات داخل البلدة الواحدة، وتضطر عائلاتٌ كثيرةٌ إلى مغادرتها صونًا لحياة أبنائها، ومنهم، أيّ العائلات الفلسطينية، من عائلاتٌ هاجرت إلى قبرص واليونان ودولٍ أوروبيةٍ أخرى.

خطةٌ أخرى جديدةٌ - قديمةٌ يتحدثون عنها في الآونة الأخيرة، هي العمل على تفريغ النقب، جنوبي فلسطين، من أهله وسكانه الأصليين، أيّ بدو النقب. هنا تبرر حكومة إسرائيل ذلك بتصريحها أنّ البدو يسكنون في بيوتٍ، ويعيشون في مواقع غير معترفٍ بها من قبل الدولة، وبهذا يخالفون القوانين. تتذرّع الحكومة بهذا لتفريغ المنطقة من سكانها، بواسطة طردهم من مراكز حياتهم التاريخية، وفي أحسن الأحوال تُجمّعهم في معازل ضيقة، شريطة أنْ يتنازلوا عن حقّهم في أراضيهم، هذا صراعٌ طويلٌ ومريرٌ منذ إقامة إسرائيل، إذ اضطرت بعض العشائر البدوية إلى قبول خطط كهذه، في حين أنّ الغالبية العظمى منهم تعمل على الضغط من أجل بقائها والاعتراف بوجودها، ومن ثمّ منحها تراخيص إنشاء مساكنها. هنا تعمل الحكومة على تطبيق مبدأ العصا والجزرة أداة ضغطٍ وقمعٍ وتضييقٍ للخناق وخلق نزاعاتٍ وخلافاتٍ بين أبناء المنطقة. الهدف ليس تفريغ/ تطهير النقب من سكانه الأصليين فقط، إنّما تهويد الحيّز الجنوبي من فلسطين كي يفقد لونه العربي – الفلسطيني.

كلّ هذه الخطط والأدوات، التي تعمل حكومة إسرائيل على إخراجها إلى حيّز التنفيذ، تهدف إلى تحقيق مقولة: "أرضٌ أكثر، عربٌ أقلّ". مقابل ذلك يعمل المجتمع الفلسطيني في الـ 48 على التصدي لهذه السياسات، سواء بالأدوات القانونية (محاكم)، أو بالاحتجاجات العلنية (مظاهرات وإضرابات)، وتشكيل لوبياتٍ ضاغطةٍ سعيًا إلى إلغاء سياساتٍ ممنهجةٍ، ووضع خططٍ إصلاحية، ومشاريع تمكين مجتمعي ووجودي. الطريق نحو تحقيق ذلك شاقٌ ومضنٍ، ويحتاج إلى جهودٍ وطاقاتٍ كثيرةٍ.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows