عادت الأنظار نحو قطاع غزة بعد انتهاء المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية التي استمرت 12 يوماً، شهدت خلالها تعثر مفاوضات غزة وتجميد النقاش حول مستقبل القطاع ومصير حرب الإبادة المستمرة منذ أكثر من 20 شهراً. وشكلت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتتالية حول غزة، وقرب التوصل إلى اتفاق، إشارة بشأن انطلاق قطار المفاوضات المتعطل، بما في ذلك قوله، الجمعة الماضي، إنه "يعتقد أن وقفاً لإطلاق النار سيتحقق خلال الأسبوع المقبل". وعاد بعد ذلك، أمس الأحد، وكتب على منصته للتواصل الاجتماعي تروث سوشال: "أبرموا الاتفاق في غزة. أعيدوا الرهائن (المحتجزين الإسرائيليين)".
من جهته، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية ماجد الأنصاري، أول من أمس، إن الوسطاء يتواصلون مع إسرائيل وحركة حماس للاستفادة من وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل من أجل الدفع باتجاه التوصل إلى هدنة في قطاع غزة. وأعرب الأنصاري، في مقابلة مع وكالة فرانس برس، عن أمله في عدم تضييع هذه الفرصة قائلاً: "إذا لم نستغل هذه الفرصة وهذا الزخم، فستكون فرصة ضائعة من بين فرص كثيرة أتيحت في الماضي القريب. لا نريد أن نشهد ذلك مرة أخرى". في الوقت نفسه، أكدت مصادر فلسطينية مواكبةٌ جزءاً من النقاشات الدائرة حالياً عدم وجود أي تطور حقيقي حتى اللحظة بشأن ملف مفاوضات غزة والصفقة المطروحة خلال الفترة المقبلة، في ظل الإصرار على مقترح المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف. وقالت المصادر لـ"العربي الجديد" إن "ما تقوم به الأطراف حالياً هو نقاش ومباحثات غير مكتوبة للوصول إلى تفاهم بشأن النقاط الخلافية العالقة بالأساس والمتمثلة في آلية تسليم الأسرى (المحتجزين) الأحياء والجثث دفعة واحدة، وتفعيل البروتوكول الإنساني المتعلق بالإغاثة في غزة، والضمانات الأميركية بشأن إنهاء الحرب".
وتفتح التصريحات والنقاش الدائر حالياً بشأن مفاوضات غزة باب التساؤل حول مصير أي اتفاق محتمل وفرصه، في ظل الموقف الإسرائيلي المعروف سلفاً، الرافض فكرةَ إنهاء الحرب والمتمسك بتهجير الغزيين إلى خارج القطاع. ومنذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ترتكب إسرائيل بدعم أميركي إبادة جماعية في غزة، تشمل قتلاً وتجويعاً وتدميراً وتهجيراً، متجاهلة النداءات الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية بوقف الهجوم الإسرائيلي. وخلّفت الإبادة أكثر من 189 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وأكثر من 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين وسط مجاعة أزهقت أرواح كثيرين، بينهم أطفال. وتنصل الاحتلال الإسرائيلي من اتفاق 19 يناير/كانون الثاني الماضي الذي أبرم بوساطة قطرية ومصرية وشراكة أميركية، والذي نص على تقسيم اتفاق وقف إطلاق النار الشامل في غزة إلى ثلاث مراحل، مدة كل مرحلة 42 يوماً. إلا أن الاحتلال فرض حصاراً مشدداً على القطاع في الثاني من مارس/آذار الماضي مع انتهاء المرحلة الأولى، ثم استأنف الإبادة في الـ18 من الشهر نفسه.
ووسط المساعي لاستئناف مفاوضات غزة والتوصل إلى صفقة تبادل أسرى ومحتجزين، قدّم ويتكوف، أواخر مايو/ أيار الماضي، مقترحاً يقضي بإطلاق سراح نصف المحتجزين الأحياء ونصف القتلى منهم، مقابل تنفيذ هدنة لمدة 60 يوماً. وتُقدر تل أبيب وجود 50 محتجزاً في القطاع، منهم 20 أحياء، بينما يقبع في سجونها أكثر من 10 آلاف و400 فلسطيني يعانون من التعذيب والتجويع والإهمال الطبي.
مرحلة مؤاتية لاستئناف مفاوضات غزة
وقال الكاتب والمحلل السياسي إياد القرا إن المرحلة الحالية تُعد من أكثر المراحل مؤاتاة للذهاب نحو صفقة جزئية، خصوصاً وفق المقترح الأميركي المعدّل (اختلافات تتعلق بعملية تبادل الأسرى ودخول المساعدات وتوقيت الانسحاب الإسرائيلي ووجود ضمانات أميركية لعدم عودة الحرب)، موضحاً أن هناك بعض الملاحظات التي قدمتها المقاومة ويمكن التفاهم حولها إذا توفرت الإرادة الإسرائيلية للوصول إلى اتفاق. وأضاف القرا لـ"العربي الجديد" أن "نقاط الخلاف ليست صعبة، وتتعلق أساساً بقضايا المساعدات والبروتوكول الإنساني، إلى جانب الانسحاب من قطاع غزة وضمان عدم العودة للحرب"، معتبراً أن "هذه مسائل قابلة للمعالجة إذا توفرت ضمانات فعلية، خصوصاً في ما يتعلق بوقف إطلاق النار".
إياد القرا: إسرائيل لديها استعداد في هذه الظروف للذهاب إلى اتفاق
وأكد القرا أن "المطالب الفلسطينية مشروعة، سواء تلك التي طُرحت منذ البداية أو التي برزت في سياق التعديلات الأخيرة". وبرأيه، فإن "إسرائيل لديها استعداد في هذه الظروف للذهاب إلى اتفاق، خصوصاً أن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو يريد تحقيق مكاسب سياسية من ورائه، وفي الوقت نفسه، يسعى لتجنب إغضاب الرئيس الأميركي الذي يراهن على تحقيق اتفاق في المنطقة". وأشار إلى أن "ويتكوف يدرك أن جزءاً من العقبات القائمة هو إسرائيلي بالأساس، رغم أن الموقف الأميركي العام يظل منحازاً لإسرائيل"، موضحاً أن "فرص الوصول إلى وقف للحرب في هذه المرحلة أقرب مما كانت عليه في أي وقت سابق". عزا ذلك لأسباب عدة أبرزها "مرور ما يقارب عامين على الحرب، والخسائر التي يتكبدها الجيش الإسرائيلي، إضافة إلى فشل العمليات العسكرية مثل عمليات عربات جدعون (اسم الهجوم البري في مايو/ أيار الماضي) وخطة الشمال (حصاره وتفريغه) وخطة الجنرالات (تحويل شمال القطاع إلى منطقة عسكرية)، وكذلك العمليات في رفح (جنوبي القطاع) وغيرها، حيث لم ينجح الاحتلال في تحقيق هدفه بإطلاق سراح المحتجزين من غزة بالطريقة التي يريدها".
واقع تفاوضي مغاير للواقع الإعلامي
في الأثناء، فإن واقع مفاوضات غزة مختلف عن التصريحات السياسية، إذ قال مدير مركز عروبة للأبحاث والدراسات الاستراتيجية أحمد الطناني: "رغم الزخم الإعلامي والتصريحات السياسية المتفائلة بقرب التهدئة، إلا أن الواقع التفاوضي يكشف غياب مفاوضات فعلية ومباشرة في هذه المرحلة". وأوضح لـ"العربي الجديد" أن "المسار التفاوضي الحالي ينقسم إلى خطين متوازيين"، الأول يتمثل في "مفاوضات أميركية–إسرائيلية جارية". تتركّز هذه المفاوضات على "بلورة صيغة صفقة تسعى واشنطن إلى طرحها على الأطراف، بحيث تلبي بشكل كامل الاحتياجات الإسرائيلية، خصوصاً إصرار حكومة الاحتلال على فرض السيطرة الأمنية الشاملة على قطاع غزة، وضمان تحييد القطاع عن المشهد الوطني الفلسطيني، إلى جانب وضع ترتيبات إدارية داخل القطاع تُدار عبر طرف محلي متعاون يطبق السياسات المطلوبة من دون الدخول في اشتباك سياسي مع مشروع الاحتلال".
أما المسار الثاني، فهو "أكثر انفتاحاً وأقل رسمية، ويشمل تفاعلات بين مفاوضي حركة حماس وقوى المقاومة من جهة، والوسطاء الرسميين وغير الرسميين من جهة أخرى، من بينهم قنوات اتصال مثل بشارة بحبح (رجل الأعمال الفلسطيني الأميركي وقناة الاتصال بين حماس وإدارة ترامب) وآخرين". وأوضح الطناني أنه تُناقش وفق هذا المسار "بشكل أولي بعض الصيغ التي قد تُطرح لاحقاً من قبل الولايات المتحدة، بهدف تهيئة الأرضية لحسم البنود المتوافق عليها مسبقاً، وترك القضايا الإشكالية للتأثير غير المباشر". وبيّن أن "من المرجح استكمال عرض الصفقة الأميركية عبر تنسيق يجرى بين ويتكوف ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي المقرب من نتنياهو رون ديرمر، الذي يقود الوفد التفاوضي، ومن المتوقع أن يزور واشنطن لحسم التفاصيل مع الإدارة الأميركية".
ارتباط إسرائيلي - أميركي
إلى ذلك، رأى الباحث في الشأن السياسي ساري عرابي أن الوصول إلى اتفاق مرتبط حصراً بالظروف الإسرائيلية والأميركية، إذ إن "الفلسطينيين دائماً مستعدون للوصول إلى اتفاق، لكن المشكلة تكمن في الطرف الإسرائيلي". وأشار في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن "موازين القوى الإقليمية والدولية لا تزال مختلّة، بينما يبقى الفلسطينيون الطرف المعتدى عليه، ما يجعل مسألة الاتفاق مرهونة بالقرارين الإسرائيلي والأميركي".
ساري عرابي: هناك نقاش متصاعد داخل المجتمع الإسرائيلي حول قضية التجنيد وعبثية الحرب وخسائرها المستمرة
وأضاف عرابي أن "هناك ظروفاً قد تدفع نتنياهو للتوجه نحو اتفاق، مثل محاولته استثمار الحرب الراهنة لتعزيز مكانته السياسية أو ترويجها إنجازاً في سياق مواجهة إيران"، فضلاً عن "وجود حالة تململ داخل الجيش الإسرائيلي، سواء في قوات الاحتياط أو القوات النظامية، وسط اعترافات إسرائيلية بأن العمليات العسكرية في غزة وصلت إلى أقصى ما يمكن تحقيقه". وأوضح أن هناك "نقاشاً متصاعداً داخل المجتمع الإسرائيلي حول قضية التجنيد وعبثية الحرب وخسائرها المستمرة، إلى جانب عجز الاحتلال عن كسر إرادة المقاومة في غزة، وانكشاف الدعاية الإسرائيلية أمام المجتمع الدولي، وظهور فضائح تتعلق بالإبادة الجماعية والتجويع". وبرأيه، لا يمكن التعامل بثقة كافية مع المعطيات الراهنة أو التصريحات الأميركية "ما لم يكن هناك مقترح جدي مطروح يجرى التعامل معه من جميع الأطراف". حينها فقط، يمكن الحديث، وفق عرابي، عن خطوة حقيقية نحو اتفاق، و"إلا يبقى الأمر مجرد أحاديث وتسريبات لا دليل ملموساً عليها حتى اللحظة".
Related News


