
عبادة عبد الفتاح عرابي عشريني مكافح. تُوفّي والده قبل سنوات، وترك له عائلةً أصبح معيلها الوحيد، ما دفعه إلى التخلّي عن حلم الدراسة مبكّراً، وطرق باب العمل، كي يؤمّن حياةً كريمةً، ويقي عائلته الصغيرة ذلّ السؤال. عمل محاسباً في محلّ خضروات لأحد أقاربه في منطقة بيادر وادي السير في عمّان، ونال ثقة ربّ عمله لأمانته وإخلاصه ومواظبته، وحظي بمحبّة الزبائن واحترامهم، وقد أجمعوا على دماثته وتهذيبه ورفعة أخلاقه وحسن تعامله.
كان عبادة، رغم صغر سنّه، راضياً بنصيبه من هذه الدنيا، حاملاً أمانة والده الراحل بكلّ جدارة، باذلاً كلّ جهد ممكن في رعاية أمّه وإخوته الصغار، الذين حرص على تعليمهم رغم شحّ الإمكانات. أفاد المقرّبون منه بأنه كان شابّاً محترماً عصامياً شجاعاً تميّز بالعزّة والكرامة والأنفة، لذلك لم يرضخ لضغط قاتله البلطجي، أحد أصحاب السوابق ومحصّلي الأتاوات ومدمني المخدّرات في المنطقة، الذين اعتادوا ترويع التجّار والمواطنين، وسلب أموالهم (خاوة) بالقوة والتهديد، من دون أن يعترض طريقهم أحد، ومن دون أن يجرؤ أيّ من الضحايا على التقدّم بشكوى لدى الجهات المتخصّصة. اعترف الجاني، الذي سلّم نفسه لقوات الأمن، بأنه طلب الأتاوة من عبادة مرّات، غير أنه رفض، وفي المرة الأخيرة قال له: إذا لم تعطني ما أريد سأطعنك. ... غير أن الشابّ الشجاع ظلّ على رفضه الرضوخ (لعلّه لم يتخيّل أن منسوب الشرّ في البشر قد يصل هذا الحدّ)، عندها بادر الجاني متعمّداً (ومترصّداً) بطعنه عدّة طعنات في القلب، أدّت إلى وفاته على الفور.
أثارت الحادثة المؤلمة غضب الشارع الأردني، وتفاعل كثيرون في مواقع التواصل الاجتماعي مطالبين بإيقاع العقوبة الأشدّ بحق المجرم القاتل، الذي أزهق روح شابّ في أول عمره من أجل حفنة دنانير. صادر حقّه في الحياة، وحرم أمّه عودته إليها في المساءات متعباً يهفو إلى لقمة ساخنة من صنع يديْها، يحدّثها عن يومه المزدحم، ويستمع إلى كلمات الترضّي عنه، فتهدأ روحه، ويزول تعبه، وينام قرير العين تأهّباً ليوم جديدٍ من العرق والتعب والرضا. لكن ذلك لن يحدث، لأن عبادة، شهيد لقمة العيش كما سمّاه بعضهم، والشجاع الذي قال: لا، نام إلى الأبد، وخلّف عائلةً مكلومةً لن يعزّيها شيء بعد أن فقدت سندها الذي سيق في لحظة سوادٍ إلى موت جائر، في زمنٍ قبيح جائر، إذ الاستقواء على المستضعفين والظلم والحقد والعنف والعدوانية والأذى... مفاهيم قبيحة، أصبحت راسخةً في مجتمعاتنا المنخورة.
لن يطفئ حرقة أم عبادة سوى الاقتصاص العادل من المجرم الآثم، قاتل ابنها الشهم الجميل، الذي راح ضحيّةً مجّانيةً جوراً وظلماً وبهتاناً في استخفاف مريع بقيمة الحياة. وبحسب قانون العقوبات الأردني، الذي يعرّف جريمة القتل العمد بأنها إزهاق روح إنسان عمداً مع سبق الإصرار والتخطيط، فإن الجاني يُعاقَب بالإعدام إذا كان القتل مقترناً بظروفٍ مشدّدة، وهذا ما ينطبق بالحرف على هذه الجريمة البشعة التي صدمت الجميع، وقد صدرت تصريحاتٌ من شقيق المغدور، ومن أفراد من العائلة، تؤكّد رفض أيّ وساطاتٍ أو ضغوط اجتماعية لمصالحة تؤدّي إلى دفع ديَة القتيل، وإسقاط الحقّ الشخصي، وبالتالي، تخفيف العقوبة التي أقرّها القانون والشرع، وقالوا بالفم الملآن إن أموال الدنيا بأسرها لن تعوّضهم دم فقيدهم.
الرحمة لروحك، يا عبادة، والصبر لعائلتك في مصابها الكبير، على أمل أن تتحقّق العدالة وتأخذ مجراها الصحيح، من دون ألاعيب قانونية، ومن دون صكوك صلح عشائرية غالباً ما تجري في مثل هذه الحالة، فيخفّف الحكم على القاتل، ويضيع الحقّ، وتقطن الحسرة أبدياً في قلوب أمّهات حزينات مقهورات.
