مشاريع الترجمة في سورية.. ارتجال معرفي وتهميش مؤسسي
Arab
4 hours ago
share

لعلّ من المفارقات الكبرى في الحياة الثقافية المعاصرة ما يشير إليه أصحاب دور النشر السورية، من أن الكتب المترجمة إلى العربية من لغات أخرى تحظى، في غالب الأحيان، بإقبال جماهيري يفوق نظيراتها من الكتب المؤلفة محلياً والصادرة عن كتّاب محليين أو عرب.

وبعيداً عن تحليل الظاهرة، أو استعراض أسبابها، يمكن القول، والحال هذه، إن الترجمة إلى العربية تجاوزت كونها أحد العناصر الرئيسة الفاعلة في صناعة الكتاب السوري، لترتقي إلى مصاف العوامل المؤثرة بقوة حضورها المتزايد في تشكيل الوعي العام، وتخوم الثقافة المحلية. فلم تعد الترجمة مجرد نافذة على العالم الخارجي، بل أصبحت ممراً حصرياً للدخول إلى العالم والانسجام معه، بوصفه عالماً واحداً ومتعدداً في آن، وهو ما يضفي وجاهة على مقولة جوزيه ساراماغو الحائز جائزة نوبل: "الأدب المحلي يكتبه الكاتب، أما الأدب العالمي فيكتبه المترجمون".

ولا يمكن النظر إلى أهمية الترجمة، سواء في تكوين المشهد الثقافي السوري، أو في محددات طباعة الكتاب، بمعزل عن جملة العوامل المؤثرة في صناعة الكتاب السوري عموماً، ومن أبرزها تردي الوضع الاقتصادي، وتراجع القدرة الشرائية، وانكماش دور الثقافة أمام أولويات البقاء والعيش، في ظل واقع يضجّ بمزيج متراكم من الدمار الاجتماعي والإنساني.

غياب مشروع وطني للترجمة سببه قصور السياسات الثقافية

وقد سبق لوزارة الثقافة أن أدرجت الترجمة ضمن أولوياتها، فأعدت خططاً سنوية لمشروع وطني للترجمة أعلنت عنه عام 2017، وصاغت خطته التنفيذية عام 2018، بمبادرة من الهيئة العامة السورية للكتاب، التي أُحدثت بمرسوم جمهوري عام 2006. وقد استقطب المشروع نخبة من المترجمين السوريين، بهدف اختيار وترجمة باقة سنوية من ثقافات متنوعة تلبي متطلبات المعرفة والأدب والعلوم، وفق توجهات المشروع المعلنة. واستهدفت الخطة سبع لغات رئيسة: الإنكليزية، الفرنسية، الألمانية، الإسبانية، الروسية، التركية، الفارسية. كما أطلق المشروع جائزة سنوية للترجمة باسم سامي الدروبي (1921 – 1976) تكريماً لإسهاماته بوصفه أحد روّاد الترجمة في سورية.

وفعلياً، ومنذ عام 2018، احتل المشروع الوطني للترجمة التابع لوزارة الثقافة، المرتبة الأولى سورياً من حيث عدد الترجمات الصادرة، بمتوسط 70 عنواناً سنوياً حتى عام 2024، إذا ما قورن بأي من دور النشر منفردة. لكنه يفقد هذه المرتبة عند المقارنة مع إصداراتها مجتمعة، رغم أن عدداً محدوداً فقط من دور النشر الخاصة لا يزال فاعلاً في ميداني الترجمة والنشر.

دفع تراجع الدخل المترجمين السوريين البارزين إلى الهجرة

بدوره، يساهم اتحاد الكتاب العرب، الذي يصدر نحو 60 عنواناً سنوياً، بجزء ضئيل فقط في مضمار الترجمة، وبشكل انتقائي، ليحتل بذلك المرتبة الثالثة، بعد المشروع الوطني للترجمة ودور النشر الخاصة. وهي مرتبة لا تتناسب مع دوره المفترض، ولا مع عدد أعضاء جمعية الترجمة المنبثقة عنه.


غياب المشروع العام

باستثناء المشروع الوطني للترجمة الذي أدارته وزارة الثقافة السورية، والذي انطلق في زمن الحرب، ولم يخلُ من التسييس، وهو -بحسب اعترافها- أدنى بكثير من الطموحات على المستويين الكمي والرؤيوي، فإن مشاريع الترجمة في سورية لم تخضع لأية نواظم أو خطط بنّاءة من شأنها تأسيس معارف تراكمية، أو سد فجوات ثقافية وعلمية، أو حتى تلبية احتياجات معرفية أساسية. بل كانت، في الغالب، نتاج اجتهادات عشوائية خاضعة لمزاجيات دور النشر وأهواء المترجمين ومصالحهم.

ويرى المترجمون السوريون أن غياب مشروع وطني متكامل للترجمة يعود إلى قصور السياسات الثقافية، وخضوعها للتوجّه الرسمي، بالإضافة إلى نقص التمويل والدعم اللازم. ويعتبر هؤلاء أن من أهداف المشروع الوطني تجديد الحيوية الفكرية، وحماية المجتمع من التكلّس والشيخوخة الثقافية.

ويعتقدون أن هذا الغياب يفسح المجال لظهور ترجمات مشوّهة وقاصرة عن إيصال المعنى أو الدلالة، بسبب غياب معايير الجودة الأسلوبية والمعرفية، التي تتطلب إلماماً عميقاً من المترجم بكلتا اللغتين، وبالحقل المعرفي المتخصص والمصطلحات الدقيقة.
وفي واقع الحال، تنبع اختيارات المترجمين ودور النشر غالباً من اعتبارات تسويقية ناتجة عن صدى إعلامي متعلق بالكاتب أو الكتاب. وهي في معظمها اعتبارات تجارية وشعبوية، وحتى إن تميّز بعضها بأصالة، فإن اقتطاعه من سياقه الزمني، أو اجتزاء بعض أجزائه يحول دون تحقيق الأثر المطلوب.


هموم الترجمة

وباعتبار أن الترجمة، بما تنقله من ثقافات إنسانية مختلفة، يمكن أن تعيد طرح أسئلة الهوية وحدودها النفسية والثقافية، فإن همّها الثقافي يسبق باقي الهموم، سواء في دورها التنويري وتخصيب الأفكار المحلية بمنتجات الفكر الإنساني، وتنشيط الجدل والمقارنة، أو في ما يخصّ المخاوف من انتشار أفكار مغايرة يُنظر إليها بأنها تهديد أو عامل تغريب للثقافة المحلية.

ويدخل هذا القلق في نطاق الهموم العامة للترجمة، لا سيما في ندرتها ضمن ميادين الدراسات النقدية والنظريات الحديثة. فقلّما يجد المترجمون السوريون المهتمون بهذا النوع فرصاً لدى دور النشر، التي تتخوف من العواقب المادية للنشر في هذه المجالات.
ومن الهموم العامة إلى الهموم المحلية، التي ارتبطت بزمن الحرب، وتجلّت في تدهور الوضع الاقتصادي، وتراجع مستويات المعيشة، وانخفاض عدد دور النشر الفاعلة والكتب المترجمة سنوياً.

يعاني المترجمون السوريون من ضعف المردود المادي، ومن هيمنة دور النشر التي تستفيد من وجود فائض مترجمين، فتسود متلازمة "ضعف الأجر وضعف الجودة"، وتنتشر الترجمات السريعة والتجارية، خصوصاً مع تطور الترجمة الإلكترونية وزيادة الاعتماد على أدواتها.

وقد دفع تراجع الدخل كثيراً من المترجمين البارزين إلى الهجرة أو الارتباط بمشاريع خارجية، ما أدى إلى غيابهم عن ساحة الترجمة المحلية، حتى لو كانوا لا يزالون داخل البلاد.

ومن أبرز التحديات أيضاً النقص الحاد في المترجمين من وإلى لغات مؤثرة كالصينية، واليابانية، والهندية، واللغات الأفريقية، ما يدفع دور النشر إلى الاعتماد على الترجمة من لغة وسيطة، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان جزئي لروح النص والمعنى.

وإذا كان من المبكر الحكم على مستقبل الترجمة في سورية بعد سقوط النظام، بسبب ارتباطها بجملة من المتغيرات غير الواضحة حتى الآن على الصعيدين الرسمي والخاص، فإن وزارة الثقافة الجديدة كانت قد أعلنت، في مايو/ أيار 2025، عن إصدارات جديدة ضمن المشروع الوطني للترجمة، ما يدلّ على استمرار المشروع بوصفه سياسة عامة، مع الالتزام بالبرامج التي وُضعت قبل سقوط النظام.

أما دور النشر السورية الخاصة، فستستمر في نشاطها في الترجمة ضمن حدود وهوامش تحددها المتغيرات اللاحقة.


* كاتب من سورية
 

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows