"ذا بيتلز" في يومها العالمي... وجه جديد لمملكة قديمة
Arab
5 hours ago
share

تكاد "ذا بيتلز" البريطانية تنفرد بين الفرق الموسيقية الكبرى بعدما أصبحت ذكرى تأسيسها، التي تصادف الخامس والعشرين من يونيو/حزيران، مناسبة احتفالية عالمية، رمزيةً على الأقل، في ربوع بريطانيا والعالم.

لكنّ المفارقة لعلّها تكمن في أنّ تلك الصُّحبة من الموسيقيين اليافعين، شديدي الموهبة والوسامة والذكاء، لعبت دوراً بارزاً في التحوّل الذي طرأ على المشهد الثقافي الغربي عموماً، وبريطانيا خصوصاً، حين أخذت الأخيرة تفقد العظمة التي كانت لها من قبل.

تزامن هذا التحوّل، في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية ونشوب الحرب الباردة، مع إعادة تموضع المملكة المتحدة على الخريطة الجيوسياسية، فلم تعد تشكّل منذ ذلك الحين، قطب الكولونيالية الغربية، تلك "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، ذات المستعمرات مترامية الأطراف من المحيط إلى المحيط، بل أمست إحدى القوى الكبرى التي تدور في فلك القطب الجديد، ألا وهو الولايات المتحدة الأميركية.

أسهمت "ذا بيتلز" في رسم ملامح الإمبراطورية الآخذة في الانحسار، الساعية للتشبّث بما تبقّى لها من نفوذٍ سياسي واقتصادي، عبر القوّة الثقافية الناعمة، لكي تبدو أكثر خفّة ونضارة، تدعو إلى السلام والحب، وتنأى عن العنف والحرب، وإن انخرطت، سرّاً وعلناً، في نزاعاتٍ عدّة، منها العدوان الثلاثي على مصر 1956، وحرب الفوكلاند مع الأرجنتين 1982.

بذلك، كانت تسعى إلى إخفاء مظاهر الشيخوخة والعجز، مقارنةً بما كانت عليه في الماضي المجيد، غير البعيد، وصرف الانتباه عن تبعيّتها المتزايدة للولايات المتحدة الأميركية.

التاريخ الذي أصبح مجازاً، وبمبادرة من أحد المعجبين "عيداً عالميّاً" اختير لتأريخه ظهور الفرقة على شاشة شبكة بي بي سي للمرّة الثانية سنة 1967 من خلال بثٍّ حيّ عبر الأقمار الاصطناعية، شاهده ما يفوق عدد 400 مليون من المتابعين حول العالم. ذلك لما حظيت به المؤسّسة البريطانية للإرسال، بوسيطَيها، التلفزيوني والإذاعي، وخدمات بثّها متعدّدة اللغات، من متابعة واسعة، على امتداد القرن العشرين، لتشكّل اليد الطولى للغة الإنكليزية المتعولمة اضطراداً والثقافة الأنغلوساكسونية الآخذة في السواد.

بذلك، مهّدت كلّ من المؤسسة الإعلامية العابرة للحدود والتقنية الحديثة العابرة للغلاف الجوي، الطريق أمام الفريق الموسيقي الصاعد لأن يحوز جماهيرية مكوكبة غير مسبوقة لجهة سعة انتشارها الجغرافي، ويستقطب مجموعة بشرية هائلة السعة من المعجبين المخلصين، غيّرت من معنى الشهرة وصناعتها إلى الأبد؛ إذ بدأ الغرب، مذاك، بصناعة نجومٍ جماهيريّين يتماهى معهم كلّ الكوكب، كما كانت الحال مع ملك البوب مايكل جاكسون، وكما هي اليوم مع المغنية الأميركية تايلور سويفت، لكي يصبحوا عوامل في بناء قوّته الناعمة، أكانوا واعين لذلك، راغبين فيه، أم لم يكونوا.

أتت الطلّة المتلفزة التاريخية ضمن فقرات البث الأول من برنامج دعائي تثقيفي يحمل اسم "عالمنا" (Our World)، أُعدّ وأُنتج بالتنسيق مع اتحاد البث الأوروبي (EBU) ليكون أوّل مادة بثٍّ حيٍّ في التاريخ عبر شبكة الأقمار الاصطناعية، فقدّمت لمدة تزيد على ساعة ونصف، كشكولاً من النشاطات المجتمعية والعلمية والثقافية، الفنية والفولكلورية والإنتاجية، تُرصد من بلدان عدّة.

بما أنّ الغاية المنشودة والمعلنة كانت الاحتفال بتحوّل العالم، في حقبة ما بعد الحربين، إلى قرية صغيرة بظلّ الوثبة التكنولوجية الجديدة في وسائل البثّ والاتصالات، فقد جرى تعمّد تغييب السياسة من خلال رموزها ومؤسساتها.

إلا أن دول المعسكر الشرقي آنذاك، بقيادة الاتحاد السوفييتي، سحبت تمثيلها في اللحظات الأخيرة احتجاجاً على حرب إسرائيل على دول الطوق العربي في يونيو، وما وصفته بالتحيّز الدعائي الذي شاب البرنامج لصالح معسكر حلف الناتو، ما حرمه البعد الكوني والإنساني المُبتغى منه، وجعله مقتصراً على الدول الغربية، على رأسها أميركا وبريطانيا وألمانيا الاتحادية.

لأجل مشاركتها في البرنامج ممثّلةً لبريطانيا، قدّمت "ذا بيتلز" أغنية بعنوان All You Need Is Love (كلّ ما تحتاجه هو الحبّ)، ألّفها العضو المؤسّس جون لينون (1940 – 1980)، وإن ظلّت تُنسب إليه بالشراكة مع عضو مؤسّس آخر، هو بول مكارتني.

وبعد أن سُجِّلت على أسطوانة وصَدرت منفردة، أصبحت، على امتداد عقدَي الستينيات والسبعينيات، نشيداً لحركة المقاومة السلمية وثورة الشباب، تزامناً مع أحداث مايو/أيار 1968 التي عمّت عواصم أوروبا الغربية، والمظاهرات الحاشدة في الولايات المتحدة المناهضة للحرب الأميركية في فيتنام (1955–1975).

في إيحاءٍ رمزيٍّ ببوصلةٍ مستقبليّة، تُحدِّد وجهتَها ثقافةُ الجيل الصاعد، احتلّت الأغنية القسم الأخير من البرنامج، قبيل الختام، وبُعيد فقرةٍ ظهر فيها المايسترو والمؤلّف الأميركي ليونارد بيرنشتاين (1918 - 1990)، وهو يُجري بروفة مع عازف بيانو على كونشرتو للمؤلّف الرومانسي رخمانينوف.

وسعى مذيع البرنامج، على إثر ذلك، إلى رأب أيّ صدعٍ جيليٍّ محتمل، مشيداً (1:19:00) بأعضاء الفرقة وهم يستقبلون أفراداً من الأوركسترا صعدوا إلى خشبة المسرح، ليدلّل على أنّ "هؤلاء — أي فرقة ذا بيتلز — ليسوا بفتية روك أند رول ممّن لا يرحّبون بصحبة رجالات الموسيقى السيمفونية".

والواقع أنّ "ذا بيتلز" لم يُحرزوا قطيعةً تامّة مع جيل الماضي، بل جزئيّة، منحت بريطانيا وجهاً جديداً نضراً لطيفاً، من دون أن تتحرّر تماماً من سطوة مؤسّساتها الثقافية الراسخة منذ العهد الفيكتوري في القرن التاسع عشر، التي عادت إلى الظهور مع انتخاب مارغريت تاتشر رئيسة للحكومة سنة 1979.

يتجلّى ذلك حتى في التأليف الموسيقي الكامن خلف الأغنية الشبابيّة التي قدّمها الفريق، وأطلّ بها على الكوكب بأسره بفضل شبكة بي بي سي وتقنية الأقمار الصناعية؛ إذ إنّ التوزيعات الهارمونية السائغة التي اعتمدها في صياغة الألحان، وإن أتت مبتكرة، فقد ظلّت بطبيعتها الصوتية محافظة، توحي بلمسةٍ من البراءة، بل ومن السذاجة أحياناً، إذا ما قورِنت بخشونة الروك أند رول القادم من الضفّة المقابلة للأطلسي.

وهذا ما أشار إليه الباحث الاجتماعي في جامعة غلاسكو الاسكتلندية، غيري هسان، في مقالةٍ كتبها العام الماضي في Scottish National بعنوان The Last Great British Story: The Enduring Story of The Beatles، فقال: "ذا بيتلز وحقبة الستينيات غيّرا الكثير في المجتمع والفن والثقافة… لكن من دون التطرّق إلى الجذور والأسس؛ إذ إنّ التحوّلات الثقافية وحدها لن تكون كافية لإحداث التغيير البنيوي الذي لا تزال بريطانيا بحاجة إليه".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows