
ما اللسانيات الاجتماعية؟ هذا هو السؤال الذي يُعالجه كتاب الباحث الفرنسي هنري بوييه "مدخل إلى اللسانيات الاجتماعية"، الصادر حديثاً بطبعة عربية عن "المنظمة العربية للترجمة" في بيروت، وقّعها الباحث والمترجم وأستاذ اللسانيات الاجتماعية اللبناني نادر سراج، وبتصدير المفكّر التونسي الطاهر لبيب. تنفرج فصول الكتاب المُترجم (264 صفحة) عن مقاربات موضوعية تتناول في العمق اللغة لا بوصفها "أصواتاً يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم"، كما قال ابن جنّي، بل باعتبارها مرآة للتحولات الاجتماعيّة وعنواناً للكينونة والانتماء، والمدن بوصفها تُربة اللسانيات الاجتماعية الحَضَريّة، هي الشاغل المعرفي الرئيس عند المؤلِّف والمترجم على السّواء.
حياة اللغة/اللغات
يُدشّن كتاب "مدخل إلى اللسانيات الاجتماعية" مساراً يربط بين اللسان والمجتمع، انطلاقاً من حياة الإنسان داخل المكان والزمان، ويعرض مؤلّفه المجالات والإشكاليات الأساسية لهذا الفرع الدراسي الذي أصبحت أهميته أكثر وضوحاً وترسيخاً داخل علوم اللغة، فهو يدرس نشأة اللسانيات الاجتماعية وتكوين موضوعها الأساسي: أي حياة اللغة واللغات داخل المجتمعات البشرية وقضايا العلاقة فيما بينهما. يرفد "مدخل إلى اللسانيات الاجتماعية" المعارف اللسانية الكلاسيكية بإضافات نوعية، نظرية وتطبيقية، تهمّ البحث اللساني العربي، وعمادها مروحة واسعة من الشواهد والتجارب. فهو يتطرّق إلى مسائل حيوية راهنة كالسياسات والأسواق اللغوية (الحرّة والرسمية) والازدواج اللغوي بوصفه صراعاً والأحادية اللغوية بوصفها أيديولوجية لسانية اجتماعية.
كما يتناول طرائق الكلام الحضرية الشبابية، من حيث انتمائها إلى أشكال المدن الجديدة التي تستوعب مختلف موجات التهجير. فالمدينة متعدّدة اللغات بحيويتها الاجتماعية، ورموزها اللغوية، وهي تربة اللسانيات الاجتماعية الحضرية. أما تأثير "الهجين اللغوي" وإسقاطاته اللسانية في الهوية والأيديولوجيا، فقد قاربها المؤلف مستعيناً بتحليل جملة مختارة من الألفاظ والتعابير والمقترضات اللغوية المتداولة في صفوف القوى الحية في المجتمع الفرنسي.
بُعد اللغة الاجتماعي وإشكاليات أُخرى
في مقدّمته للكتاب يوضّح بوييه ما تشغله اللسانيات الاجتماعية اليوم من حيّز خاص في صميم علوم الإنسان والمجتمع كما في صميم علوم اللغة. وانطلاقاً من النقد الناجع للسانيات البنيوية التي انغلقت على نفسها في "تأويل" کتاب فردينان دي سوسير "محاضرات في اللسانيات العامة" تأويلاً مذهبياً، ظهرت اللسانيات الاجتماعية منذ أكثر من نصف قرن فكونت حقلاً اختصاصياً معرفيّاً معلناً، ويحمل اسماً عنواناً خاصّاً به، إذا صح التعبير. وقد اقترن ظهورها بهدف أساسي يُراعي بعد اللغة الاجتماعي مُراعاةً جدّية. وبطبيعة الحال، حضر هذا الفرع الدراسي قيد النشوء في مؤلفات عدد من اللسانيين، أما في فرنسا، فيذهب تفكيرنا بالتحديد إلى عالم اللسانيات أنطوان ميه.
يكتسب مسار اللسانيات الاجتماعية مشروعيته فيما وراء الأطلسي، ليتطور لاحقاً في أوروبا، ويظهر بصورة إفرادية على وجه الخصوص في فرنسا حيث تشكل اللسانيات الاجتماعية بيئة علمية غزيرة الإنتاج. كما أنها تشكل فرعاً دراسياً ذا شخصية فريدة في قلب التعليم العالي والبحث العلمي كليهما.
كذلك يُعالج الكتاب مفهوماً حاضراً بشكل خاص في تحليل سياقات الاحتكاك بين اللغات، وهو "الازدواج". فعلى مدى القرن العشرين خضع هذا المفهوم إلى شتى أنواع المنطق اللسانية الاجتماعية للبيئات التي استخدم فيها، وأضحى بذلك مادة للتقارب أو للاختلاف تتصل بمضمون هذه الكلمة ودلالتها. كما ينطوي على مناهج تتصل دوماً بسياقات الاحتكاك بين اللغات، والمقصود بذلك ظواهر غالباً ما تسبّبها هذه السياقات مثل بروز وجهة نظر اجتماعية تاريخية محددة تخص هذه اللغات والمراد بها اللغات المحلية "المولدة"، أو أيضاً بروز تعابير هجينة لطرائق كلام، سواء أكانت هذه الطرائق مؤقتة أم غير مؤقتة، ثمّة أيضاً مسألة "موت" اللغات والاستراتيجيات الطموحة بعض الشيء، والتي تعمل لصالح اللغات "المهددة" بالانقراض.
تختص الإشكالية الأخيرة التي يقدّمها الكتاب، بنمط تدخل ذي سمة عملية / تقنية في اللسانيات الاجتماعية المقصود بذلك إدارة اللغات بواسطة "سياسات لغوية"، مؤسساتية أو غير مؤسساتية. وبطبيعة الحال، هذا الميدان ليس الوحيد الذي أتاح للسانيات الاجتماعية أن تُعرف بوصفها علماً مفيداً، قادراً على أن يطور إيجابياً بضعة مواقف من الانزعاج الجماعي، هذا إذا لم تكن بضعة مواقف من العنف المستعر بين المجموعات ولكن هذا الميدان هو بالتأكيد من الميادين الأولى في هذا المجال.
هنري بوييه أستاذ فخري في جامعة بول فاليري (مونبولييه) بفرنسا، وباحث وأكاديمي. درَّس علوم اللغة واللسانيات الاجتماعية. وضع الكثير من الدراسات في عدة ميادين ترتبط بهذه العلوم، وقد ركز اهتماماته في دراسة أوضاع اللغات عندما تقع في مواقف تتصارع فيها الأيديولوجيات السياسية والاجتماعية، والانتماءات اللغوية، والهويات المتنافرة.
أما نادر سراج فهو باحث ومترجم لبناني، وأستاذ في اللسانيات الاجتماعية، أصدر أكثر من ستّة عشر كتاباً بالعربية والفرنسية، من بينها: "حوار اللغات" (2007)، و"خطاب الرشوة: دراسة لغوية اجتماعية" (2008)، و"أفندي الغلغول: شاهد على تحوّلات بيروت خلال قرن 1854 - 1940" (2013)، و"مصر الثورة وشعارات شبابها: دراسة لسانية في عفوية التعبير" (2014)، و"الخطاب الاحتجاجي: دراسة تحليلية في شعارات الحراك المدني" (2017)، و"البيت: السوسيولوجيا واللغة والعمران دراسة لسانية تطبيقية" (2017)، و"معجم العربية المحكية في لبنان: ألفاظ وعبارات من حياة الناس" (2020)، و"صرخة الغضب: دراسة بلاغية في خطابات الانتفاضة اللبنانية" (2022)، و""بيروت: جدل الهوية والحداثة" (2023).

Related News


