شعر العامية في مصر.. بين مقاومة الإهمال وتوظيف التكنولوجيا الحديثة
Arab
3 hours ago
share

يواجه شعر العامية في مصر جملة من التحديات المتشابكة التي تضعه في اختبار حقيقي، خصوصاً في ظل التحولات الرقمية وانتشار النشر الإلكتروني. فمن جانب، يفتقر إلى الفعاليات والمناسبات الرسمية والأهلية التي تتيح له فضاءات للإلقاء والنقاش والتنظير، في ظل تراجع دور قصور الثقافة الجماهيرية. ومن جانب آخر، يصطدم بنظرة المؤسسة الرسمية والأوساط الأكاديمية والنخب المحافظة التي لا تزال تعتبره فناً هامشياً أو من الدرجة الثانية. وتتفاقم هذه الأزمة مع إحجام عدد من دور النشر عن طباعة دواوين العامية، وتعليق بعض المجلات الثقافية إصدارها، وكأن هذا الشعر حبيس الأداء الشفهي لا الورق.

رغم ذلك، يواصل شعراء العامية من أجيال مختلفة بناء تجاربهم المتجددة في فضاء الابتكار، من خلال نصوص حداثية وتجريبية تواكب تحولات الذات والعالم، وتتجاوز القوالب التقليدية كالغنائية والإنشاد. ويراهنون في مغامراتهم الإبداعية على شعرية القصيدة بوصفه قيمة فنية قائمة بذاتها، بغضّ النظر عن اللغة المستخدمة، مع تأكيد ضرورة التمييز بين جماليات النص وجماليات اللغة.

وفي ظل هذا الواقع، يبتكر هؤلاء الشعراء أدواتهم ونشاطاتهم الخاصة، مثل مهرجانات ومؤتمرات العامية، وملتقيات "شارع العامية"، التي وإن كانت محدودة، تشكّل متنفساً مهماً للتعبير والحضور، بالتعاون مع كيانات ثقافية مستقلة وأدبية.
ويبقى السؤال مفتوحاً: كيف يمكن لشعر العامية أن يتفاعل مع هذه الملابسات ليؤسس لحضور رقمي متماسك؟ وهل يستطيع أن يستثمر صيغ النشر الإلكتروني والصوتي – وربما يتفوق على الفصحى – دون أن ينزلق إلى فخ التبسيط أو التسطيح في زحام الوسائط الحديثة؟

مقاومة التجاهل

في حديثه مع العربي الجديد، يرى شاعر العامية مسعود شومان، الباحث في حقل الدراسات الشعبية والأنثروبولوجية، ورئيس الإدارة المركزية للشؤون الثقافية، أن التعامل النقدي والمؤسسي مع شعر العامية قد جعله، للأسف الشديد، مرهوناً بوضعية تاريخية شديدة الغرابة، فلا توجد دراسة وافية على المستوى الأكاديمي، إذ أبعدت كليات الآداب واللغات شعر العامية عن الدرس التخصصي رغم تفوقه الجمالي، وعدّه البعض إبداعاً هامشيّاً أو منقوصاً أو في مرتبة أدنى.

ويتناسى هؤلاء جميعاً، وفق مسعود شومان، ما ذكره الشاعر والكاتب صفي الدين الحلي (1277-1339) بشأن الأزجال والأشعار العامية، إذ وصفها بأنها "الفنون التي إعرابها لحن، وفصاحتها لَكْنٌ، وقوة لفظها وهن. حلال الإعراب بها حرام، وصحة اللفظ بها سقام. يتجدّد حسنها إذا زادت خلاعة، وتضعف صنعتها إذا أودعت من النحو صناعة، فهي السهل الممتنع، والأدنى المرتفع".

ويؤكد شومان أنه لزام وواجب على الباحثين الأكاديميين والمعنيين بالإبداع والثقافة والنقد أن ينشغلوا بشعرية أدب العامية وفنيّاته وجمالياته بوصفه موضوعاً أو ما يمكن تسميته "استطيقا الشعر"، وليس فقط باللغة. وقد حاول شعراء العامية أنفسهم الانفلات من هذا التجاهل المؤسسي والرسمي بتدارس أعمالهم الشعرية، بعضهم بعضاً، واختلاق ندوات ومناسبات تخصهم، قدر المستطاع.

التأثير الإلكتروني

أما تأثير مواقع الإنترنت وصفحات السوشيال ميديا وصيغ النشر السمعية والإلكترونية على شعر العامية المصرية، فيراه مسعود شومان ذا حدين. فإذا كان قد أدى إلى مزيد من رواج شعر العامية وتداوله بين قطاعات جماهيرية أوسع، فإنه قد عاد بالشعر نفسه فنياً إلى الوراء، بتغذية الآليات الشفاهية والمباشرة والحماسية، وتغييب جماليات الكتابة المتعلقة على مستوى التشكيل والتصوير والتخييل وطرح الهم الإنساني والجدل الفلسفي وما إلى ذلك. وبالطبع فإن الشعراء الجادين الحقيقيين قد نجوا من هذه الموضة أو النزعة المنبرية "شعرية الاستيدج"، وفتحوا قصيدتهم النابضة على اللحظات الكبرى، لتقف جنباً إلى جنب مع روائع الشعر في الأدب العربي والآداب العالمية.

عدّه البعض إبداعاً هامشيّاً أو منقوصاً أو في مرتبة أدنى

من جهته، يشير الشاعر سعيد شحاتة، الذي أشرف على تنظيم مهرجانات ومؤتمرات كثيرة للعامية في القاهرة والمحافظات المصرية المختلفة، منها "ملتقى شارع العامية"، إلى أن شعر العامية تأثر إيجاباً بالصيغ الرقمية والنشر الإلكتروني والسمعي خلال الآونة الأخيرة، إذ أحدثت هذه القوالب المبتكرة رواجاً في المشهد، ولولاها لتراجع شعر العامية عن ملامسة الجمهور، خصوصاً مع انتشار المسابقات المليونية والبرامج الفضائية التي تفسح مجالاً واسعاً للقصائد الفصيحة. ولعل انتشار ديوان "جوابات حراجي القط" للشاعر عبد الرحمن الأبنودي بصيغته السمعية أكثر من توزيعه ورقيّاً، يؤكد ميل الجمهور، ولا سيما من الشباب، إلى أنساق النشر العصرية.

صوت المهمّشين

ويرى سعيد شحاتة أن قصيدة العامية المصرية قادرة على أن تظل العصارة الروحية للمهمّشين، وصوت ضميرهم اليقظ، ومئذنة آذانهم الشامخة. ويعلل ذلك في حديثه مع العربي الجديد بأن هذه القصيدة تنبع من رحم العوز والفقر والجوع، لتتحدى وتبشر وتقاوم، فهي "قصيدة لها جمالياتها وتراكيبها ومفرداتها التي لا يجيدها إلا الفارس الأصيل المتشبّع من ثقافته المصرية، القادر على إعادة صياغة ملحمة الحياة التي يحياها، بلهجتها البسيطة، العميقة الراقية".

ويضيف أن هذه القصيدة خُلقت من رحم الحياة، فهي "قصيدة المعاناة والوجع والعفوية والجرأة والثورة والتمرّد، تكبح جماح الصمت، وتقتل الخوف، وتتحدى الثوابت، وتجابه الأسلحة الفتاكة، أنتجتها القريحة الشعبية وحافظت على وحدتها وطوّرتها لتترجم بها معاناتها اليومية". وشاعر هذه القصيدة "يستدعي صورها من واقع كابوسي، يستأنس بها وينتج منها هذا الإبداع المليء بالزخم والدهشة، الذي لا يقل أهمية عن تراث الفصحى الكبير. فهذا الشعر ينبع من قلوب العمال والباعة والجائلين والفلاحين والصيادين وسيدات المصاطب الضاحكات، ودموع الفقد، والعديد، وعرق الحكمة، وتشققات أقدام العابرين على الطرق الخشنة".

وربما أسباب وجود هذه القصيدة، وفق سعيد شحاتة، هي نفسها أسباب اضطهادها إلى هذا الحد، فهذا اللون الأدبي رغم أهميته "لا يزال بعيداً عن الاهتمام الذي يستحق، من المؤسسة الرسمية والجوائز الكبرى، والندوات والمؤتمرات، بل إن مؤتمرات العامية المصرية التي نعقدها جرت محاربتها بشراسة في محاولة للانقضاض عليها والنيل منها".

خلل التصنيف

ويجد الناقد الدكتور عبد الناصر هلال، أستاذ النقد الأدبي الحديث، ورئيس مجلس قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة حلوان سابقاً، أن تصنيف أو مسمّى "شعر العامية المصرية" ناتج عن الآلية اللغوية للكتابة، على اعتبار أن شعر الفصحى هو ذلك المعتمد على البنية الصرفية والنحوية للغة، وشعر العامية هو المعتمد على اللهجة المحلية الدارجة.

ويجب تخطّي هذا التصنيف كما يرى عبد الناصر هلال في حديثه إلى "العربي الجديد"، إذ إن الأهم هو الالتفات إلى الشعرية ذاتها، بمعنى قدرة القصيدة على احتواء الإشارات الجمالية وإحداث انحرافات في الأداء الوظيفي للغة، ومباغتة المتلقي بالدهشة واللذة والغبطة، وإنتاج الهمّ الوجودي والإنساني، وإعادة صياغة العلاقات والدوال، وما إلى ذلك من أبجديات فنية. وهذه الأمور والظواهر تتجلّى في شعر العامية الناضج، شأنه شأن شعر الفصحى والشعر المكتوب باللغات العالمية. وقد أنتج شعر العامية رصيداً زاخماً أسهم في تعزيز التحولات الإبداعية والفلسفية والمعرفية والثقافية بشكل عام، خصوصاً مع مرحلة الحداثة، وما بعدها، إذ استثمر شعر العامية بأيدي شعرائه الطليعيين والتجريبيين طاقاته الحية في التقاط اليومي والهامشي والمجاني، والتفاعل مع ما أنتجه شعر الفصحى واللغات الأجنبية.

الحذر الضروري

وإذا كان شعراء العامية المصرية منذ سبعينيات القرن الماضي، مروراً بالتسعينيات، قد حرروا نصوصهم الجديدة من الطبيعة الإنشادية، وقدموا نماذج متفوقة للشعر المشغول بالعالم المتحول والذات المتشظية، فإن شعراء اللحظة الراهنة المنفتحين على الكتابة الرقمية والنشر الإلكتروني والصوتي والتقنيات الحديثة، مطالبون بتوخي الحذر، وفق عبد الناصر هلال، وذلك "كي لا يسقطوا في فخاخ الخطابية والزعيق وهوس الانتشار وركوب الموجة والتريند، ويواصلوا الرؤى المتعمقة والتأملية والعلاقات المبتكرة بين الدال والمدلول والمسند والمسند إليه، وسائر منجزات قصيدة العامية".

وبحسب ما يراه الشاعر بهاء عواد يوسف، فإن اقتران شعر العامية باللهجة الدارجة يفتحه على لغة الحياة والتحدث والتفكير والحلم والعشق، وهذا الأمر يزيد شعرية القصيدة وحساسيتها والتصاقها بالإنسان والواقع، فالشعر الحقيقي يستحق العامية السلسة بقدر ما تستحقه.

ولا تقف العامية حجر عثرة أمام تطورات القصيدة الشعرية وتحولاتها، بما فيها قصيدة النثر التي استخدمت العامية المصرية أيضاً بالتوازي مع قصيدة النثر العربية الفصيحة، مثلما يوضح بهاء عواد. ويضيف الشاعر المصري أن "شعر العامية يواصل تحققه وتميزه أيضاً في ظلّ ثورة الاتصالات وطوفان السوشيال ميديا واطّراد النشر الرقمي، فهو شعر التعاملات والممارسات اليومية، وليس شعراً نخبويّاً متعالياً. ولكنه بالتأكيد يظل شعراً أصيلاً ومتعمقاً يحمل سمات وخصائص جمالية راقية، وبالتالي فإنه يبتعد كثيراً في مضمونه ولغته وجوهره عن طبيعة المنشورات الفايسبوكية الفجة والتغريدات الهشة التي لا تطرح أبعاداً شعرية في جوهرها، ولا ترتقي إلى درجة الأدب".

استيعاب الحياة

وتوضح الشاعرة سيدة فاروق الأسيوطي في حديثها إلى العربي الجديد أن العامية المصرية تشهد هجوماً من البعض منذ وقت بعيد، بل إن هناك من يعتبرونها معول هدم للعربية الفصحى، وخطراً على الإبداع الرصين. على أن شعر العامية المصرية بأجياله المتلاحقة أثبت حضوره الواثق في الميدان الأدبي، بما يحمله من تجديد وتطوير وتصوير جمالي وتشكيلي وموسيقي.

وتختتم الشاعرة المصرية أن قصيدة العامية تواجه تجاهلاً كبيراً في النشر الورقي والمسابقات الشعرية الرسمية والحضور المؤسسي عموماً باعتبارها مكتوبة بلغة أدنى أو مستغرقة في محليتها، وهذا غير صحيح بالتأكيد. وتبقى هذه القصيدة التي تحمل الهوية الوطنية والطابع الشعبي هي "الأكثر مرونة في التفاعل مع حركة الحياة ومستجدات العصر، والأكثر استجابة للتطور التكنولوجي، والأخصب حضوراً في المنصات الإلكترونية المتنوعة، وذلك عبر صياغات مرنة وبسيطة تجعلها دائماً نافذة لمن ليست لديهم نوافذ، وصوتاً لمن لا صوت لهم".


* شاعر وكاتب من مصر

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows