مفهوم السلام الترامبي
Arab
5 hours ago
share

في لحظة من لحظات الاندفاع، شبّه الرئيس الأميركي دونالد ترامب الدخول بالحرب مباشرة إلى جانب إسرائيل ضد إيران وضرب المنشآت النووية الإيرانية بالقرار الأميركي بإسقاط قنابل ذرية عام 1945 على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، وقتل نحو 220 ألف شخص، بحجة الضرورة لإنهاء الحرب العالمية الثانية.

وظّف ترامب تصريحه هذا الذي أغضب اليابان، واعتبرته استهانةً بأولئك الضحايا والتداعيات الرهيبة على أهل المدينتين، لتقديم نفسه "رجل سلام"، وهو الوهم الذي لا يفتأ يعيده لنفسه وللعالم، فيما سمح لإسرائيل بالاستمرار في حرب الإبادة ضد أهل غزّة والتنكيل والقتل والتهجير في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وإعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لشنّ عدوانها على إيران.

بقدر ما تبدو تصريحات ترامب متضاربةً، فإنها كاشفة له ولأهدافه؛ أصبح من الواضح أن ترامب يسعى "إلى سلام"، هو حقيقة "استسلام" العرب وإيران، وربما تركيا إذا لم تستجب لشروطه بدعم تطبيع سوري مع إسرائيل، وأنه مستعدٌّ للّجوء إلى القوة بدون إحداث خسائر بشرية وزج الجيش الأميركي في حرب الأرض، إذا تطلّب الأمر ذلك لفرض الاستسلام، بما فيه التطبيع العربي الإسرائيلي الشامل، بما يضمن الهيمنة الكاملة لإسرائيل على المنطقة. وعليه، فإن اللوحة الإعلانية التي استفاق الإسرائيليون والعالم عليها، بفعل تركيز وسائل الإعلام عليها، صباح الجمعة في تل أبيب، التي تبشّر بانضمام جميع الزعماء العرب، بمن فيهم الرئيس السوري أحمد الشرع، تحت عنوان "الشرق الأوسط"، هي جزء من حرب نفسية على الشعوب العربية، وخصوصاً الفلسطينيين، وذلك بالإيحاء بأن إسرائيل "انتصرت ولم يبق لكم سوى الاستسلام". وهي رسالة ترامب تماماً، وإن من المبكر أن يكون مقتنعاً بانتصار إسرائيل، فقد تكون اللوحة رسالة إلى ترامب أيضاً بأن ما يريده سوف تحققه إسرائيل.

يستمر التخاذل والتواطؤ العربي وقمع الشعوب وانحياز أميركا الكامل لإسرائيل

أوردت ما تقدّم لأنني لا أعتقد بأنه حتى ترامب يصدّق أن إسرائيل حققت الانتصار الذي تريد على إيران، وإلا لما أدخل أميركا في حرب مباشرة لدعمها، وإن كان قد عمل على تجنّب انتشارها في المنطقة، مع أنه يعرف مسبقاً عن غارة إيران على قاعدة العديد الأميركية في قطر. ولذا، انتشار السخرية والحديث والكتابات عن انتصار إسرائيل وهزيمة إيران تضليل عن قصد بسبب كراهية إيران أو بغير قصد، ويؤدي إلى نشر ثقافة الاستسلام وأحياناً يعكس عدم تقدير صائب لما حدث ويحدث.

... ننسى أن إسرائيل غير معتادة أن تكون عرضةً للقصف والتدمير؛ فهي دائماً التي تقصف وتدمر، ويهمّها ويهم واشنطن تصويرها قلعةً منيعةً لا تستطيع أي قوة أن تتحدّاها أو تخرقها، لكنها في أقل من عامين اهتزّت، باعتراف إسرائيل بأكبر عملية اختراق، وهي "طوفان الأقصى" التي اعتبرتها كارثة أمنية، ثم جاءت صواريخ إيران لتدكّ البنايات ومعهد وايزمان ومواقع إسرائيلية مهمة.

إسرائيل غير معتادة أن تكون عرضةً للقصف والتدمير؛ فهي دائماً التي تقصف وتدمر، ويهمّها ويهم واشنطن تصويرها قلعةً منيعةً لا تستطيع أي قوة أن تتحدّاها

لا ننكر فداحة الفجيعة الفلسطينية، فإسرائيل شنّت وتشنّ عملية إبادة ممنهجة ضد الشعب الفلسطيني، لكن الحديث هنا عن التأثير على إسرائيل، من حيث أهمية الحفاظ على صورتها وإصرارها على ضمان استمرار الإسرائيليين والمستوطنين بالتمتع بحياتهم بدون خوف وحتى إزعاج، فالإسرائيليون اعتادوا على قتل الفلسطيني وقصف لبنان وسورية من دون أي انقطاع في حياتهم، ما عدا على الحدود. وتغيّر هذا منذ 7 أكتوبر 2023، وهو ما لم تغفره إسرائيل فأطلقت جيشها ليمارس وحشيته على أهل غزة، فجاءت الصواريخ الإيرانية لتذيقهم للمرة الأولى حالةً من الحرب لم يجربوها ويتوقعوها أبداً، فالأضرار لديهم لا تقاس بالخسائر حصراً، بل بانعدام شعورهم بالأمان، فقد تربى المجتمع الإسرائيلي، وكذلك المهاجرون إليه من الخارج، على الشعور بالتفوّق العنصري والفوقية، وأنهم أعلى "حضاريين". ولذلك يفهمون معنى تذوّق الحياة، فيما العرب ليسوا إلا همجيين لا يستحقّون الحياة الجميلة، وحتى الحياة نفسها. لذا حين أمطرت صواريخ إيران السماء بكثافةٍ لم يعهدوها، صُدموا بأن حياتهم قد لا تعود إلى سابق عهدها. ولا يعني هذا أن العدالة أصبحت أقرب إلى الفلسطينيين، فالتخاذل والتواطؤ العربي وقمع الشعوب وانحياز أميركا الكامل لإسرائيل لم تتغير، بل بالعكس، فبعض الدول تخشى من إيران أكثر من خطر إسرائيل، لأن وعي الشعوب بتهديد إسرائيل وحقها بالدفاع عن أوطانها وحقوق الشعب الفلسطيني تشكل برأي تلك الدول خطراً على الاستبداد والأنظمة التي لا تريد أن توجع رأسها برفض ما تطلبه واشنطن منها. كما أن وجع غزّة لا يقاس بأي إنجاز تحقق؛ فليس هناك أهم من وقف القتال، إذ يكفي أنّه لا يمكن تعويض خسائر أهل غزّة، إذا لم نخسر غزّة نفسها، ولا توجيه لوم إذا لم يهتم أهل غزّة بالحديث عن إيران وإسرائيل.

وفي الوقت نفسه، كيف نستطيع أن نمضي بالدفاع عن فلسطين إذا استمررنا، على الأقل نحن في خارج غزّة، بألّا نفكر في كيف نستطيع الاستفادة من حقيقة أن إسرائيل لا تستطيع فعلاً أن تدافع عن نفسها أو تحقّق النصر في حربها على إيران بدون تدخّل أميركا مباشرة؟ وبأسلحة لم تجرّب من قبل لإيقاع خسائر أكبر في إيران؟

 يبدو أنّ ترامب محتاج اليوم للتوصّل إلى اتفاق وقف القتال في غزّة؛ لأن انتصاره الحقيقي "إقناع العرب بالدخول جميعاً بتحالف مع إسرائيل تحت قيادتها وسيطرتها"

إذا لم تكن صائبة المبالغة في تقدير صمود إيران، فإن نشر ثقافة الانهزام مشكلة أخطر بكثير. صحيح أن إيران لم تضرب إسرائيل إلا حين اعتدت عليها، ولم تضربها لإنقاذ غزّة، لكن اعتداء إسرائيل على إيران لأنها سلّحت المقاومة الفلسطينية، لنتذكّر هذا، إضافة إلى هدف آخر مهم، إنهاء إيران قوة ردع أو نداً في المنطقة. وبالفعل، أظهرت النتيجة أن أميركا تتعامل مع إيران بوصفها قوة إقليمية، بينما تنظر إلى الدول العربية على أنها تابعة لها، وإذا كان هذا صحيحاً، فإن بعض هذه الدول لا تقبل كل ما تطلبه منها أميركا، لكن الأخيرة لا ترى ثقلاً للعالم العربي، ما يزيد غطرسة أميركا وإسرائيل. وفي هذه اللحظة، يبدو ترامب محتاجاً للتوصّل إلى اتفاق وقف القتال في غزّة؛ لأن انتصاره الحقيقي "إقناع العرب بالدخول جميعاً بتحالف مع إسرائيل تحت قيادتها وسيطرتها".

وقف إطلاق النار أهم لأهل غزّة، وهي الفرصة الأخيرة للدول العربية أن تتدخّل، حتى لا تفرض إسرائيل شروطاً تتيح لها استئناف الحرب أو إنهاء وجود غزّة، لكنها للأسف، لا تعي أهمية هذه اللحظة، وستبقى "حماس" وفصائل المقاومة وحدها، وإن كان عليها أيضاً إعطاء أولوية ليس لنفسها، بل لأهل غزّة.

قد يباشر ترامب ضربة جديدة لإيران، إذا اقتنع بأنه فشل في إنهاء البرنامج النووي الإيراني كما تقول التسريبات الاستخباراتية الأميركية، وهو ما يؤثر على صورته وقدرته على إخضاع المنطقة تماماً له، فهو يعي تماماً أن صورة إسرائيل اهتزّت، ويجب إبقاؤها قويةً، لكن تحدّيه الأكبر أن يظل يقنع العالم بأنه بطل السلام، وأن أي عمل عسكري هو "لإنهاء الحرب"، والمهم ألّا يرتكب جريمة هيروشيما وناغازاكي جديدة، أو أن يسمح باستمرار إبادة غزّة تحت شعار "السلام".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows