
لم يبخل المشاركون في قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، في هولندا أخيراً، في التعبير عن امتنانهم للرئيس المظفّر. ولعلّه طرب لتلك المدائح، ومن الطرب ما يُسكِر، فأخذته النشوة في نقطته الإعلاميّة (25 يونيو) إلى حدّ تشبيه النزاع الإسرائيلي الإيراني بشِجارٍ التلاميذ: "لقد تشاجرا مثل طفلين في ساحة المدرسة". لم يكن ذلك الدمار إذنْ سوى "شِجارٍ مدرسي"! وسرعان ما هتف الأمين العام للحلف، مارك روتي، وكان جالساً بجانبه: "دادي يحتاج أحياناً أن يرفع صوته". ويبدو أن صفة الدادي أو "الأب المتسلّط"، أعجبت الرئيس، فردّ بابتسامة عريضة على هذا النفاق اللزج. هكذا إذنْ، بعد 80 عاماً من الأسرة الدولية "الراشدة"، يعود الجميع إلى مربّع الأسرة "القاصرة" التي تحتاج إلى أبٍ يرفع صوته، أو "سوطه".
تعود جذور "الأب المتسلّط" (Le père fouettard - حرفيّاً حامل السوط) إلى أسطورة من القرون الوسطى، منتشرة بشكل خاصّ في بلجيكا وألمانيا وجنوب فرنسا، تُصوّر جزّاراً شرّيراً اختطف مجموعة من الأطفال، وتركهم في وعاء مملوء ملحاً، لكنّ القدّيس نيقولا المعروف ببركاته اكتشف مكانهم وأنقذهم. وتُستخدم هذه الأسطورة لتخويف الأطفال وتشجيعهم على التزام الطاعة. والحقّ أنّ شعوباً كثيرة استبطنت فكرة "الأب المتسلّط حامل السوط"، إلى درجة اعتبارها مثلاً "بيداغوجيّاً" أعلى، في مجالات التربية والتعليم والسياسة. ويغلب ذلك على الدول الاستبداديّة التي تُعلِي مطلبَ الطاعة على كلّ مطلب، خصوصاً على مطلب الحريّة، وتبرّر بطشَها وقبضتها العنيفة بعواطف أبويّة مزعومة.
ظنّ العالم أنّه تجاوز العمل بكلّ أشكال الوصاية، بما في ذلك الوصاية التي تتعلّل بالأبويّة ولا يرشح منها إلا العنف. لكن يبدو أنّ اللحظة الترامبيّة مصرّة على إعادة الشيخ إلى صباه، بمعنى الفظاظة والرعونة وليس الفتوّة والشباب. وها هو يرتكب واحدة من أكبر حماقاته في قمّة حلف ناتو المذكورة أعلاه، مُقارناً الضربات الأميركيّة على المنشآت النوويّة الإيرانيّة بالقنابل الذريّة التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي في نهاية الحرب العالميّة الثانية، قائلاَ إنّ ضرباته كانت من القوّة بحيث أنهت الحرب بين إيران وإسرائيل. مضيفاً وهو يغمز ناحية الكاميرا: "لو لم نفعل لكانوا يقتتلون الآن". طبعاً، لا أحد ذكّر فخامة الرئيس العبقريّ، بخسائر اليوم والأمس، وبمخلّفات الأمس واليوم. والأفدح: لا أحد ذكّرهُ بغزّة وعموم فلسطين.
حاول نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس أن ينتحل لرئيسه قاعاً نظريّاً، زاعماً أنّ هذه التصرّفات تخضع إلى عقيدة واضحة المعالم: من أركانها الأساسيّة: أوّلاً تحديد مصلحة أميركيّة. ثانيًا تحريك الدبلوماسيّة الاستعراضيّة لإرغام الأطراف المعنيّة على دخول بيت الطاعة بما يحقّق تلك المصلحة. ثالثًا التربيت على المستسلم وتوجيه ضربة عسكريّة ساحقة للمتمرّد، ثمّ الخروج قبل أن يتحوّل الأمر إلى نزاع طويل. وليس ثمّة طبعًا ما يؤكّد صحّة الارتقاء بهذا التمشّي إلى مرتبة العقيدة. إلا إذا تعلّق الأمر بعقليّة تاجرٍ مراهنٍ يتصرّف حسب حدس اللحظة. وهذه سمة مشتركة على مرّ التاريخ بين شخصيّات كثيرة أتاحت لها الظروفُ التحكّمَ في مقدّراتٍ هائلة أصابتها بالجنون. وإنّ من اليسر بمكان أن تستعرض خطابات هذه الشخصيّات من دون ذكر الأسماء، فإذا أنت أمام خطاب نتنياهو وأنت تظنّه خطاب هتلر. أو أمام خطاب أندرو جاكسون، الرئيس السابع للولايات المتحدة، وأنت تظنّه خطاب ترامب. نحن دائماً أمام عقيدة التسلّط الشعبويّ نفسه وإن تغيّرت الأسماء.
إنّها "عقيدة الدادي" تعود، إذَن، بعد 80 عاماً من تأسيس منظّمة الأمم المتّحدة، التي وجدت أساساً من أجل قطع الطريق أمام هذا النوع من "العقائد"! هل ثمّة من مجال لإعلان أيّ نصر، أم إنّه إفلاس مدوٍّ للنظام العالميّ كلّه، وفشل ذريع لمنظومة القوانين الدولية التي أنشئت تحديداً من أجل منع مثل هذه الحروب، ومن أجل الخروج بالبشريّة من قانون الغاب؟ كان في الحسبان أنّ العقل البشريّ قد أدرك مساوئ الغلبة بالقوّة، وقرّر وضْعَ حدٍّ لثقافة المهمّات القذرة، ومَنْعَ أيّ حاكمٍ من الاستفراد بقرار. لكن ماذا حدث؟ سياسيّ ألمانيّ يشكر الجيش الإسرائيليّ على "قيامه بالمهمّة القذرة نيابة عنهم"! ورئيس أكبر ديمقراطيّة في الغرب يتباهى بأنّه أعاد ضربة هيروشيما وناغازاكي في طهران! هكذا يقف جلاّدُ الأمس وضحيّتُه في خندق واحد. بينما كبيرُ الغرب يتباهى بأنّه "الدادي" المتسلّط "حامل السوط".

Related News

