لا لفرض الانضمام إلى حلف أبراهام على لبنان
Arab
4 hours ago
share

على وقع التضعضع الدراماتيكي الذي مُني به محور الممانعة، وخصوصًا بعد الضرر الكبير الذي لحق بالبرنامج النووي الإيراني بفعل الحرب الإسرائيلية/ الأميركية الأخيرة على إيران، معطوفًا على هزيمة حزب اللّه في لبنان في خريف 2024، تتعالى في بلاد الأرز أصوات من المعسكر المقابل، المؤيّد للغرب، ولا سيما لأميركا (وضمنًا لإسرائيل، باعتبارها رأس حربة الغرب بتوجّهه الإمبريالي في المنطقة)، للمطالبة بانخراط لبنان في مسار التطبيع وانضمامه لحلف أبراهام (الذي يسمّى بالحلف الإبراهيمي، في حين أنّ "أبراهام" يختلف عن "إبراهيم"، وهو ما يشرحه بوضوح أستاذ الدّراسات اليهودية والعربية، التونسي فوزي البدوي).

ويتذرّع هؤلاء بضرورة أن يتلافى لبنان العزلة، وأن يسير في حلف أبراهام باعتباره مسارًا عربيًا بقيادة السعودية، كما يقولون، مستشهدين بالنظام الجديد في سورية الذي يسير بخطى ثابتة نحو التطبيع، في ظلّ أنباء ينقلها الإعلام العبري ("إسرائيل هيوم") عن اتصالات يومية ومباشرة للتنسيق الأمني والسياسي بين إسرائيل وسورية، يشرف عليها رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي.

لا يجب أن يكون السلام بين لبنان وإسرائيل من المحرّمات الدينية أو التابوهات الأخلاقية، ولكن، بالمقابل، "سلام" الاستسلام، المفروض بالقوّة وبالقوّة فقط، "السلام" غير العادل، الذي لا يعيد الحقوق ولا يحفظها، هذا "السلام" ليس تحرّرًا ذهنيًا من قبل "العقل العربي"، أي ليس كما يحاول تصويره بعض "البني وي وي" الذين يستدخلون بعض التفكير الاستشراقي العنصري السخيف، ويجترونه من دون أدنى حس نقدي. حفظ هؤلاء شيئًا من سرديات الخضوع، وغاب عنهم ما هو أهم بكثير.

من الصعب جدًا اعتبار هجوم إسرائيل على إيران دفاعًا مشروعًا عن النفس

1) بعد حرب إسرائيل الأخيرة على إيران، غالبًا لم تعد اندفاعة "عرب الاعتدال" نحو التطبيع بنفس القوّة التي كانت عليها قبل هذه الحرب، فالقوّة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة، المُنفلتة من أيّ ضوابط، أصبحت تثير القلق حتى بنظرهم، إذ بدأوا ينظرون إليها، كما بات يبدو جليًا من كتابات بعض كبار المنظرين الاستراتيجيين في هذه الدول العربية، كعنصر أساسي من عناصر زعزعة الاستقرار في المنطقة، وهو أمر يتناقض مع مقتضيات نظام إقليمي يسمح لهم بتحقيق طموحاتهم الاقتصادية بالازدهار، فضلًا عن استشعارهم الخطر من جرّاء قوّة جامحة كهذه.

في حربها الأخيرة ضدّ إيران، أثبتت إسرائيل مرّة جديدة أنها لا تقيم أيّ وزن للقانون الدولي، ولا سيما لقانون الحرب (jus ad bellum) الذي يحدّد حصريًا الحالات التي يمكن أن يتم فيها استخدام القوة (يجب تفريقه عن القانون في الحرب، jus in bello، أي القانون الدولي الإنساني، الذي جرى انتهاكه أيضًا في الحرب الأخيرة).

فمن جهة أولى، من الصعب جدًا اعتبار هجوم إسرائيل على إيران دفاعًا مشروعًا عن النفس (حتى بنسخته الاستباقية؛ والدفاع الاستباقي هو، بجميع الأحوال، موضع نقاش كبير حول مشروعيته بنظر القانون الدولي)، وذلك لاعتبارات عدّة لا مجال لذكرها هنا، خصوصًا أنّ تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأخير غالبًا غير كاف لتبرير "دفاع عن النفس". ومن جهة أخرى، فإنّ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لم يسمح باستخدام القوّة هذا، ما يشكّل انتهاكًا إسرائيليًا (وأميركيًا في وقت لاحق) لشرعة الأمم المتحدة. وعليه، فإنّ هجوم إسرائيل على إيران يشكّل جريمة عدوان بنظر القانون الدولي.

الدول العربية أكثر من يعاني من تبعات انتهاك القانون الدولي، ولا سيما من قبل إسرائيل وإيران

عادة، الدول العربية أكثر من يعاني من تبعات انتهاك القانون الدولي، ولا سيما من قبل إسرائيل وإيران، ولعل أكثر ما انتهكته إيران مبدأ عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول العربية واحترام سيادتها، إلى جانب انتهاكات أخرى كثيرة، في حين أنّ إسرائيل دائمًا ما انتهكت القانون الدولي بمختلف قواعده في علاقتها مع الدول والشعوب العربية. في الصراع العسكري الأخير بين إسرائيل وإيران، أكثر ما أقلق الدول العربية، بأغلبيتها، انتهاك أحد طرفي النزاع قانون الحرب (أي إسرائيل)، ما فتح باب المنطقة على مصراعيه لمخاطر حرب إقليمية هستيرية كان يمكن ألا تبقي ولا تذر، مع مخاطر نووية (تسريبات إشعاعية)، لا يمكن أن تبقى الدول العربية بعيدة عن تبعاتها الإنسانية وذيولها السياسية والعسكرية.

كانت دول "الاعتدال العربي" مندفعة للتطبيع كوسيلة لإيجاد توازن استراتيجي مع إيران، ولكن بعد أن تحقّقت هيمنة إسرائيل العسكرية على الشرق الأوسط بفعل الحرب الأخيرة وخصوصًا مشاركة الولايات المتحدة فيها، لم يعد من مصلحة "عرب الاعتدال" تقوية إسرائيل وتكريس هيمنتها السياسية والاقتصادية عبر تطبيع العلاقات معها، بل أصبحت هذه الدول العربية تطمح هي لملء الفراغ الحاصل من جرّاء انحسار الدور الإيراني المتوقّع.

2) أما بالنسبة للتذرع بأنّ سورية تسير بخطى ثابتة نحو التطبيع، فإن سلمنا جدلًا بهذا القول، يبقى الأهم: لبنان ليس سورية. في سورية، أكثرية الشعب السوري من طائفة واحدة، فإذا سارت هذه الأكثرية بالحلف الأبراهامي، غالبًا لن يشكّل ذلك مادة انقسام طائفي خطيرة. أما في لبنان، حيث لا أكثرية مطلقة ديمغرافيًا لأيّ طائفة، بل مجموعة أقليات طائفية، فسياسة الأحلاف لا تأتي إلا بالويلات على بلد لديه تركيبة مثل التركيبة اللبنانية، ويمكن أن تفجّره، خصوصًا أنّه غالبًا ما يشكّل انضواء لبنان ضمن حلف معيّن عنصر تقوية لطائفة أو طوائف على حساب الأخرى؛ ولنا في تاريخ لبنان أمثلة كثيرة في هذا الخصوص، ولا سيما منذ 1958، تأييد لبنان لحلف السنتو (بغداد)، في فترة ما يتم تصويره على أنّه "الزمن اللبناني الجميل".

لم يعد من مصلحة "عرب الاعتدال" تقوية إسرائيل وتكريس هيمنتها السياسية والاقتصادية عبر تطبيع العلاقات معها

من والمستهجن أن يتم تحويل فرادة لبنان إلى مادة (سخيفة) للعنصرية والاستعلاء على المحيط، ولكن إذا لم تستهدف الحرب الأخيرة على إيران محور إيران في المنطقة فحسب، بل تهدف أيضاً لتحجيم فرادة لبنان أو محوها، كما يقول ذلك صراحة بعض أبواق التطبيع من الفيشيين الجدد (نسبة إلى حكومة فيشي في فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية) في لبنان، فغالبًا سوف تخيب أيضا آمالهم، تمامًا كما خابت آمال من سبقهم من أبواق الهيمنات والوصايات على اختلافها. حاول النظام السوري البائد، على فترة 55 سنة، أن يمحو فرادة لبنان؛ وحاولت إسرائيل، خصوصًا بعد اجتياح 1982، أن تمحو فرادة لبنان؛ وحاولت إيران، أقلّه منذ اغتيال الحريري، أن تمحو فرادة لبنان؛ كلهم فشلوا. واليوم، سوف تتكسّر أمواج مشروعهم على صخرة فرادة لبنان، بإذن اللّه، ففرادة لبنان مدماك هُويّته ومصدر عنفوان شعبه، وتجعل من لبنان.. لبنان.

3) قبل الوصول المفترض إلى مسار السلام، وقبل التكلّم عن ذاك المسار، ليس لبنان من يعرقل مسار التوصل إلى هدنة دائمة بشكل أساسي، بل إسرائيل، التي تحتل أراضي لبنانية، وتقوم يوميًا بانتهاكات سافرة، لا يمكن أن يبرّرها شيء، لاتفاق وقف الأعمال العدائية منذ الموافقة عليه؛ إسرائيل التي يدأب الفيشيون الجدد في لبنان على إغفال مسؤوليتها الأساسية في عرقلة مسارات التهدئة مع لبنان، وهو، بالمناسبة، ما يراهن عليه الحزب من أجل الغمز من جهة "فشل" الدولة في تحمّل مسؤولياتها السيادية بوجه إسرائيل. أما التهديد والوعيد بسيف الإمبريالية الأميركية واليمين المتطرّف الحاكم فيها، ولا سيما التلويح ببعبع العقوبات على بعض السياسيين اللبنانيين، الذي يقوم به بعض الفيشيين الجدد، من أجل أن ينصاع لبنان لإملاءات أسيادهم، فمن واجب أركان الدولة اللبنانية ألا ترضخ له، مهما تنطّح أبواق الوصاية الجديدة.

لا لفرض الالتحاق بقطار التطبيع على لبنان بإملاء خارجي وبالقوّة

بالمحصلة، إذا كان من يتاجرون بالعداء للإمبريالية الإسرائيلية/ الغربية من أجل التسلّط على شعوبهم والتوسّع في الإقليم غوبلزيّون، فالأكيد أيضًا أنّ من يبرّرون الإمبريالية الإسرائيلية/ الغربية والخضوع لها والاستسلام لسطوتها ولإملاءاتها مجرد فيشيّين. الفرق أنّ غوبلز خلّده التاريخ، ولو بالسوء؛ ولكن من يذكر جان لوشير، وزير الإعلام في حكومة فيشي؟ حتى "مزبلة التاريخ"، بتعبير تروتسكي، لا مكان له فيها.

أخيرًا، فليعذرنا الغارقون في أحلام انتصارية إسرائيل، من تجار "السيادية"، المغتبطون بسطوة جبروت هيمنة الإمبريالية الإسرائيلية/ الأميركية على المنطقة، فليعذرنا مزوّرو الوعي، مبرّرو الخضوع للإملاءات باسم "واقعية" مغلوطة أصبحت مرادفة للذل والهوان، على حساب سيادة بلدهم، واستقلاله، وقراره الحر، وسلامة أراضيه؛ فليعذرنا جاك دوريو، أو مارسيل ديا، أو غاستون بيرجوري لبنان (الذين التحقوا بركب الهيمنة الخارجية على بلدهم - فرنسا - في الحرب العالمية الثانية): يجب أن يكون السلام بين لبنان وإسرائيل قرارًا لبنانيًا مستقلًا، على ضوء مصلحة لبنان حصرًا، وعندما تكون الظروف مواتيه للبنان وحقوقه وسيادته ومصالحه. لا لفرض الالتحاق بقطار التطبيع على لبنان بإملاء خارجي وبالقوّة، من أجل أن ينضوي صاغرًا ضمن معسكر تحت الهيمنة الإسرائيلية، بوجه محور الممانعة المشؤوم، وبعد أن كان مفروضًا على لبنان الالتحاق بهذا المحور البائد لسنوات خلت. لا للوصاية الإيرانية، ولا للوصاية السورية، ولكن أيضًا لا للوصاية الإسرائيلية/الأميركية، لا لاستبدال وصاية بوصاية، لا لأي وصاية على لبنان.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows