
لا تزال مدينة لندن التي لطالما استقبلتنا بمتاحفها التي تحمل بين جدرانها العالم بأسره تبتكر وتفاجئ. من المومياوات المصرية في المتحف البريطاني، مروراً بتماثيل بوذا في متحف فيكتوريا وألبرت، وليس انتهاءً بإبداعات بلاد الرافدين المهيبة، وتحديداً النقوش الجدارية الضخمة، والثيران المجنحة الآشورية القادمة من نينوى وخورسباد. ألِفنا في متاحف لندن مواجهة الماضي، واستعراض الحضارات، والاستماع إلى الروايات القديمة. بيد أنّه، في شارع أكسفورد وبعيداً عن التاريخ بكل ثقله، يظهر متحف من نوع آخر اسمه "تويست"، وهو اختصار لعبارة: The Way I See Things، أي الطريقة التي أرى بها الأشياء. لا يعرض التاريخ، بل ما نحن عليه الآن. هنا، لا تُعرض تماثيل ولا مخطوطات، بل تُعرض الحواس. الدماغ هو المعروضة الأساسية، والتجربة هي المادة الحية.
زرت متحف تويست من دون توقعات محددة، ثمّ خرجت بتجربة يصعب اختصارها. كانت مختلفة، ومليئة بلحظات الدهشة والاكتشاف. لم أرَ مثل هذا المكان من قبل، ولم أختبر هذا النوع من التفاعل مع محيطي في أي معرض أو متحف آخر. شعرت أحياناً بدوار خفيف، وراودني في لحظة شعور يشبه الغثيان. ومع ذلك، لم تكن التجربة مزعجة، بل مثيرة ومربكة في آن. في بعض اللحظات، بدا لي أن الأرض مائلة تحت قدمي، وفي أخرى شعرت أنني أصغر بكثير من جسدي، كأن حجمي قد تقلّص فجأة. أما الإضاءة، خاصة داخل الأنفاق والمربعات البصرية، فكانت تعكس صورتي عشرات المرات، بطرق لم أكن أفهمها تماماً وكأنني أرى نفسي من زوايا جديدة لا أعرفها.
عندما لا يمكن الوثوق بنظرك
في بداية الجولة، دخلت غرفة تظهر فيها أحجام الأشخاص غريبة وليست منطقية. وقفتُ على أحد الجانبين ورأيت نفسي بحجم صغير جداً، بينما بدا الشخص الآخر ضخماً بشكل غير متناسب. لم يكن خداعاً بصرياً فقط، بل خلل في الإحساس بالمكان والفراغ. المكان يدفعك لأن تتساءل: هل ما أراه صحيح؟ أم أن عيني وذاكرتي تصنع لي واقعاً خاصاً؟ في زاوية أخرى، كانت الأرض مائلة، بينما يصرّ عقلي على أنها مستقيمة. المشي فيها يتطلب مقاومة فعلية، كما لو أنك تحاول إقناع جسدك بأن ما يراه ليس صحيحاً. شعرت هناك بالدوخة، بل بعدم قدرة جسدي على الاستجابة كما يفعل في الشارع أو المنزل. بيد أنّه كان إحساساً غريباً، مصحوباً بفضول الاكتشاف.
الصوت يمكن أن يكذب
من بين التجارب الأكثر إثارة، كانت تلك التي يُطلب فيها التمييز بين صوتين لماء يُسكب. أحدهما لماء ساخن والآخر لماء بارد. الفارق بسيط غير ظاهر، ومع ذلك استطعت التمييز بينهما. هذه التفاصيل الدقيقة التي نعتقد أننا لا ننتبه إليها، يبدو أنّها مخزنة في أدمغتنا وتُستدعى في لحظة واحدة، من دون أن نعرف كيف ولماذا. في قسم آخر، استمعت إلى نغمة موسيقية ظننت أنها ترتفع بلا نهاية. مع أنها في الواقع لم تكن ترتفع أبداً. إنها وهم صوتي، يسمى (Shepard Tone)، يُستخدم أحياناً في الأفلام لزيادة التوتر، كونه يعطي إحساساً زائفاً بتصاعد دائم. الصوت هنا لا يُسمع فحسب، بل يُفكّك ويفضح حدود الدماغ. تجربة أخرى لا تُنسى كانت لما يُعرف بـ "شبح بيبر"، إذ بدا مصباحاً مضيئاً يطفو في الهواء بلا مصدر. الخدعة تعتمد على زجاج خاص وزاوية رؤية محددة، بتأثير مباشر: شعور بوجود كائن خارق أو غريب وغير منطقي. في أحد الأركان، كان هناك طوب لندن الأحمر التقليدي الذي بدا يطفو في الهواء، وكأن قوانين الفيزياء قد توقفت عن العمل للحظة. تمرّ بجانبه، تتفحّصه ويبقى ثابتًا كأيقونة ساخرة من مفهوم الجاذبية نفسه.
لوحات ثابتة تلاحقك في متحف تويست
من الأعمال اللافتة أيضاً، لوحة ثلاثية الأبعاد للفنان باتريك هيوز، تجعلك تشعر أن الأجسام داخلها تتحرك كلما تحركتَ أنت. ليست خدعة رقمية، بل تركيب ذكي لسطوح مائلة ومنظور معكوس. والنتيجة: لوحة تتبعك. تنظر إليها من جهة فتراها تميل، تقترب فتدور، تبتعد فتعود إلى وضعها الأول. شعور بالارتياب البصري الممتع. في عمل آخر، تشاهد شكلاً غريباً لا يمكن تفسيره إلا من زاوية معينة، لتكتشف أنه جمجمة مرسومة بذكاء. هذا النوع من الفنون يُدعى أنامورفوسيس، وكان يُستخدم منذ القرن السادس عشر. لكن توظيفه هنا لا يحاكي الماضي بل يُدخل المشاهد في لعبة مع الإدراك.
في كل زاوية داخل متحف تويست يظهر سؤال صامت: هل ترى كما أرى؟ هل تسمع كما أسمع؟ كلمات تطرح صراحة: هذا السؤال على أحد الجدران: "هل الأزرق الذي تراه في السماء هو نفس الأزرق الذي يراه غيرك؟". السؤال يبدو بسيطاً، لكنه يثير تساؤلات وشكوك في داخلك. كل تجربة داخل هذا المتحف تجعلك تعيد النظر في إجابتك. ما يجعل تجربة "تويست" فريدة هو أنها لا تقدم لك إجابات، بل تفتح أبواب الشك. هي تجربة تدمج الفن بالتقنية والعلم باللعب والدهشة بالتفسير. ليست رحلة هادئة بل مليئة بالحركة، بالتفكير، بالمقارنة وبإعادة النظر. تدخل بثقة في حواسك، وتخرج منها بابتسامة خفيفة... وشك عميق. متحف تويست ليس متحفاً تقليدياً، بل مختبر للحواس. لا يرث الماضي، بل يختبر الحاضر ويقول لك ببساطة: ليس كل ما تراه حقيقياً... لكن قد يكون أجمل مما تظن.
