
اليوم، في العديد من المدن المغربية، تزيّن تماثيل الفرسان الشوارع الكبرى شاهدة على المكانة التي يحتلها ركوب الخيل في بلد تقترن أعياده الوطنية، الدينية والفلاحية بعروض التبوريدة، وهي طقس احتفالي يستحضر بفنون الفروسية ملاحم المجاهدين في قتال المستعمر. في الفن المغربي، تُعدّ التبوريدة (الخيالة) موضوعاً مفضلاً لدى عدد من التشكيليين الذين أسرتهم حالة التآلف بين الإنسان وجواده وبسالة الفارس وجسارة فرسه.
بالتوازي، ألهم جمال الخيول البربرية والعربية الأصيلة وهيبتها، وقد امتطاها فرسان يرتدون أبهى الحلل، العديد من الفنانين المستشرقين الذين سعوا لاقتناص سحر الشرق واستكشاف فتنة عوالمه. في لوحاتهم، يغدو العرض الفروسي أقرب إلى مشهد بطولي مقتبس من ساحة الوغى. يتكرّر الحصان كعنصرٍ تصويري للدلالة على بأس الفارس وعنفوانه، كما في لوحات التبوريدة للفنان الفرنسي أوجين دولاكروا الذي شهِد عروض الفروسية خلال رحلته إلى المغرب.
متأثرين بجمالية المدرسة الاستشراقية، يصور بعض الفنانين المغاربة مشاهد الفروسية التي تتسم بجاذبية بصرية. في أحد أعماله، يمثل التشكيلي العربي بلقاضي فارساً مغربياً على جواد وسط أجواء حالمة، وقد التفّت حولهما زوابع ريح تجسدها أشكال حلزونية توحي بلولبيتها على شجاعة الثنائي أمام عدائية المكان. تحمل هذه الدوّامات الريحية دلالة رمزية أيضاً، إذ تُحيل إلى أصل الحصان الذي خُلق، بحسب الحديث النبوي، من ريح الجنوب.
من الناحية الجمالية، فإن هذه التموجات، التي تبثّ الحيوية في اللوحة، تتناغم بانسياب مع تضاريس جسد الحصان، من استدارة ردفه وانحناءة عنقه إلى الخطوط المتمايلة لذيله، في تشكيل بصري يذكر بالطابع الزخرفي المنحني الذي يميّز العديد من المنتجات الحرفية المغربية.
ألهمت الخيول والمشاهد الفروسية عدداً من الفنانين المستشرقين
في لوحة أكثر صخباً، يرسم الفنان عبد الحق أرزيمة محارباً مغربياً على جواد منطلق في العدو، حاملاً مكحلته، في صورة تنبض بالقوة والحركة وتختزل مزيجاً من الحماسة والبطولة. يُجسّد الفنان الفارسَ وجواده من منظور أمامي وقد امتدّ أحدهما في الآخر حتى شكّلا معاً كائناً واحداً "حيواناً إنسانياً غامضاً" (بتعبير جيروم غارسان)، تُضفي عليه الظلال القاتمة مزيداً من الهيبة والرهبة.
مشاهد الفروسية الهادرة حاضرة أيضاً في لوحات عبد اللطيف الزين. في محاولة منه للإمساك بروعة العرض الفروسي، يُخضع الفنان شخوصه لصياغة تشكيلية تمزج بين التجريد والتصوير، بعيداً عن الدقة التصويرية التي تتسم بها لوحات الرسامين المستشرقين وتثبت الحصان وفارسه في إيماءة محددة. تضفي المقاربة الفنية المزدوجة التي يعتمدها الزين على اللوحة طاقة تشكيلية نابضة، محولة بذلك العرض الفروسي إلى عرض مبهر من اللون والضوء يبرز الانسجام بين الإنسان وفرسه.
أما حسن الكلاوي، وهو نجل أحد أبرز الباشوات في تاريخ المغرب، فتأثر بعروض التبوريدة التي كان ينظّمها والده، لدرجة أنه سخّر كل فنه لتصوير أجوائها. في إحدى لوحاته، يظهر الكلاوي ثلاثة خيول وفرسانها على خلفية زرقاء مخططة بلمسات بنية. يُقترح المنظور في اللوحة من خلال ترتيب العناصر بشكل مائل، ما يمنح الخيول المصوّرة في حالة عدوٍ مظهراً طائراً وكأنها تحلّق في سماء زرقاء. أما الشخصيات التي رُسمت على الأرجح من وحي اللحظة، فتفقد في أعمال الكلاوي ملامح وجوهها ودقة خطوطها، ذلك أن الفنان لم يكن مشغولاً بتفاصيل المشهد بقدر ما كان يحرص على نقل الأجواء الساحرة التي تنبع من عروض التبوريدة. يُضفي المظهر الشبحِي لتلك الخيول الهوائية، التي تبدو كأنها تتحدى بثباتها في الدرجات اللونية الزرقاء جاذبية الأرض، على اللوحة طابعاً حالِماً يفتح أمام عين المتلقي أفقاً بصرياً يتجاوز حدود المنطق المرئي.
* أكاديمي وكاتب من المغرب

Related News
