
جسّد الهجوم الإسرائيلي على إيران فجر 13 يونيو/ حزيران الجاري مفصلاً نوعياً في تاريخ الصراع بين الدولتين العبرية والفارسية، علماً أن الصراع بينهما منذ وصول الخميني إلى السلطة في طهران (1979) اكتسى طابعاً أثار تساؤلاتٍ كثيرة ترتقي إلى حالة الشك في أحيانٍ كثيرة، إذ على الرغم من الشعارات العدائية الصاخبة والساخنة التي يتبادلها الطرفان منذ عقود، إلّا أن تلك السخونة في الشعارات لم تلغ جسور "التخادم" التي لم تنقطع حتى في أشدّ الظروف حلكةً وتوتّراً، ولعل هذا الأمر يحيل إلى أن الطرفين المتصارعين يدركان أن لكليهما مشروعه الذي ينبغي أن يتحاشى الاصطدام بنقيضه الآخر. وبناء على ذلك، كانت إسرائيل تقرّ، في السرّ وعلناً، أن إيران دولة إقليمية كبرى، ولكن ينبغي لمشروعها ألّا يتجاوز أمريْن:
أولاً، امتلاك القوة العسكرية التي تمكّن مشروع إيران الانتقال من قوّة إقليمية كبرى إلى قوّة عالمية عظمى. ووفقاً لذلك، لم يكن لإسرائيل اعتراض كبير على تغوّل إيران على جيرانها العرب في المنطقة، وكذلك لم يكن لها أي احتجاج على تمدّدها في العراق وسورية، بل كانت تحتج حين يتجاوز هذا التمدّد خطوطاً متفقاً عليها. وغالباً ما تجسّد هذا الاحتجاج باستهداف مواقع تابعة لإيران في الجغرافيا السورية طوال السنوات الماضية، إلاً أن هذا الاستهداف يبقى محصوراً في حيّز "المخالفة" الصادرة من إيران وأذرعها، وقد جرى ضبط هذا النمط من التعامل عبر الوسيط الروسي، صاحب السطوة الكبرى على الأجواء السورية قبل سقوط بشار الأسد. ... ثانياً، ألّا يمسّ مشروع طهران بمصالح إسرائيل أو يهدّد أمنها في الشرق الأوسط أو أي مكان آخر.
مؤكّد أن "قواعد الاشتباك" التي جسّدت إطاراً للتعامل بين طهران وتل أبيب كانت محكومة بمعطيات ومصالح متبادلة، إلّا أنها لا تتصف بالديمومة المطلقة، وهذا ما جعلها عرضةً للتبدّل منذ عملية 7 أكتوبر (2023)، إذ أطاحت التداعيات المباشرة لتلك العملية عديداً من المحدّدات السابقة، ولم تعد مُقنعة لإسرائيل بإمكانية استمرار إدارة الصراع عبر الوكلاء، بل كان القرار الإسرائيلي صارماً باتجاه تحييد الوكلاء نهائياً، وهذا ما كانت ترجمته عبر عملية "البيجر"، ومن ثم الإجهاز على معظم قيادات حزب الله في لبنان، ثم سقوط نظام دمشق (8/12/2024)، وانكفاء الدور الروسي عن التأثير بسبب انشغاله في الحرب الأوكرانية، الأمر الذي جعل طهران تتجرّد من أذرعها في المنطقة، إلّا أن زوال الأذرع لم يكن مقنعاً للكيان الصهيوني الذي أراد تحويل الصراع إلى المواجهة المباشرة.
واشنطن لا تختلف مع نتنياهو في ضرورة إجبار إيران على التخلّي عن أحلامها النووية
شهد شهر إبريل/ نيسان من العام الماضي (2024) هجوماً إسرائيلياً على إيران، ردّت الأخيرة بهجوم مماثل بالطائرات المسيّرة والصواريخ، ولكن الرسائل المتبادلة آنذاك لم تكن مقنعة لأيٍّ من الطرفين، إذ أرادت إسرائيل أن تبلغ طهران آنذاك بضرورة الاعتراف بالواقع الجديد الذي يبدأ بتجريد إيران من أذرعها وفقدانها أوراق قوتها التقليدية، وعليها أن تقرّ بأن طموحها المتنامي لامتلاك القوة النووية لم يعد يملك مقوّماته السابقة. في حين أن إيران أرادت تجاهل هذا الأمر، لاعتقادها أن فقدانها تلك الأذرع لن يحول دون وصولها إلى إنتاج القوة النووية التي ستمكّنها من العبور إلى مرحلة التسيّد وشرعنة الهيمنة.
راهن كل طرف في الحرب التى انتهت فجر الثلاثاء الماضي على ما يملكه من وسائل قوّة. ووفقاً لذلك، يمكن التأكيد أن تفوّق إسرائيل من جهة سلاح الجو (طائرات، صواريخ، طائرات مسيّرة) وحرب إلكترونية وتشويش واختراقات استخباراتية، كان يجعلها أكثر قناعة باستمرار الحرب، ليس من أجل إضعاف موقف إيران التفاوضي فحسب، بل من أجل تجريدها من جميع وسائل القوة التي تشكل تهديداً لأمن إسرائيل (النووي، الصواريخ البالستية). فيما كانت إيران تراهن على ما تمتلكه من قوة صاروخية وصواريخ بالستية وفرط صوتية (قادر 110، خيبر شكن، فتاح1، سجّيل، خورا مشهر)، والتي تمكّن عدد منها من اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية الأكثر تطوّراً في العالم (القبة الحديدية، مقلاع داود، باتريوت، منظومة حيتس) مسببة أضراراً في المنشآت المدنية، وإصابات بشرية، بالإضافة إلى الطائرات المسيّرة التي طوّرتها لتصبح قادرة على الوصول إلى أهدافها في تل أبيب والقدس وبئر السبع، ومنها "شاهد131وشاهد 136وشاهد 149 وغزّة- أراش2"، ما يعني ازدياد الخسائر البشرية لدى إسرائيل، الأمر الذي يسهم في إضعاف موقف حكومة الكيان الصهيوني أمام الرأي العام الداخلي.
وفي سياق تلك السخونة العسكرية بين طهران وتل أبيب، بقيت عيون الجميع تراقب الموقف الأميركي، وواشنطن لا تختلف مع نتنياهو في ضرورة إجبار إيران على التخلّي عن أحلامها النووية.
