للتحوّل لدى "العناصر التكوينية" للمجتمع السوري
Arab
3 hours ago
share

عند كل حادث، من اعتداء على المجال العام أو مجزرة، يشتعل الواقع السوري من جديد، ويزداد الشحن الطائفي وإطلاق الأحكام انطلاقاً من الوعي الجمعي الخاص بكل جماعة، هذا الوعي المتشكل عبر الزمن، والراسخ بقوة، مما يعوق التغيير المنشود. وعلى رأي الكاتب صقر أبو فخر في مقالته في "العربي الجديد" الأربعاء الماضي (25/6/2025)، فإن "العناصر التكوينية لهذه المجتمعات، كالطوائف والقبائل والإثنيات، شديدة الرسوخ، ولا تتحوّل إلّا ببطء شديد وعلى المدى البعيد". يزداد رسوخاً على الرغم من التغيرات التي تحصل في العالم، خصوصاً في عصر العولمة والاتصالات، لكن المعتقدات التي يشملها الوعي الجمعي لكل مكوّن بمفرده تبقى وثيقة الصلة بالموروث، ولها علاقة بالماضي الذي لم تُغادره الجماعات، وهذا من الصفات المشتركة لمعظم مكوّنات الشعب السوري: العيش في الماضي وتقديسه.

في الواقع، تعدّ هذه المشكلة من أهم القضايا الجديرة بدراستها والعمل عليها من أجل تنقية الوعي العام الجمعي لدى الشعب السوري، أو بالأحرى التأسيس لوعي عام، بعدما جرى الاشتغال على تفتيته وتشويهه، وإحلال وعي عام آخر يخدم الأنظمة القائمة، والمتحالفة، من سياسية ودينية واجتماعية، فيرسّخ سطوتها وسيطرتها على المجال العام، بالتوازي مع تعزيز هويات جزئية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، مبنيةٍ على التمسّك الأعمى بثقافةٍ تستند بشكل أساس إلى العقيدة.

التفجير الإرهابي الذي وقع في كنيسة مار إلياس في منطقة الدويلعة في دمشق، وراح فيه 25 ضحية سورية، وما يفوق 60 جريحاً ومصاباً، أشعل الواقع الفعلي والواقع الافتراضي بمنصّاته الاجتماعية المتنوّعة من جديد، وأعاد إلى الواجهة المجازر المرتكبة بحقّ بعض المكوّنات في الأشهر الماضية، ولم تقدّم اللجنة التي شكّلها النظام الحالي للتحقيق في القضية أي تقرير، حتى بعد نفاد المدّة التي منحت لها.

غالباً ما تكون المعتقدات مشتركة داخل المجموعات الاجتماعية، ويمكن تعزيزها من خلال الأعراف الاجتماعية

هذا السجال الحامي إلى حدّ إشعال الحرائق في المجتمع مؤشّرٌ خطر على الحالة المتردّية من الوعي التي وصل إليها الشعب السوري بعد سنوات الحرب التي سقط النظام في نهايتها سقوطه المدوي شأن أي نظام طغيان، ويميط اللثام عن الفظائع الكامنة تحت وجه المستنقع الذي رمى النظام الساقط فيه الشعب، ليس على مدى سنوات الحرب القذرة التي أدارها مع غيره من الأطراف التي تشبه فحسب، بل على مدى نصف قرن من القمع والشمولية التي قتلت الحسّ النقدي، مثل ما مسخت القدرة على السؤال، ما أدّى إلى تأطير التفكير وفق قوالب وأنساق يحدّدها النظام الحاكم، بالتعاون مع السلطات الأخرى التي فبرك أدواتها كما يريد، السلطة الدينية والاجتماعية وغيرهما.

لو تمعنّا قليلاً في ماهية الوعي الجمعي، وخطره وتأثيره، عندما يقَسّم إلى جماعات تعلي من شأن هويتها الدينية أو القومية على حساب بقية العناصر، ربما ساعدنا هذا التمعّن على فهم أو التقاط جذور المشكلة العضوية المتجذّرة في مجتمعاتنا، والتي تعيق مسيرة التقدّم، أو تحقيق أهداف الثورة الحقيقية التي أرادتها غالبية الشعب بعد عقود الطغيان والقمع والفساد ومصادرة الإرادة.

لكل جماعة، أو مكوّن من مكوّنات الشعب، معتقدات تشكّلت تاريخيّاً، تؤثر بشكل كبير في تشكيل الوعي الجمعي لهذه الجماعة، وذلك بصياغة وزرع كيفية إدراك الأفراد المعلومات وتفسيرها. إضافة إلى ردّات أفعالهم تجاه القضايا العامة، ويمكنها أيضاً أن تعزّز تصورات الناس لموضوع ما أو تُضعفها، وتؤثّر في اتخاذ القرار والسلوك. يحدُث هذا بآليات متنوعة، منها على سبيل المثال ما يُدعى في علم النفس الجمعي باسم "التحيز التأكيدي"، إذ يميل الأفراد عادة إلى قبول المعلومات التي تؤكّد معتقداتهم والاحتفاظ بها، بينما قد يتجاهلون أو يقلّلون من شأن المعلومات التي تتعارض معها. تقيّد هذه الظاهرة الوعي بوجهات النظر والحقائق البديلة، ولو أمعنّا النظر في العصف الذهني، والسجال الغاضب الذي يدور في مواقع التواصل الاجتماعي، لالتقطنا هذه الظاهرة المتوهجة اليوم. ويمكن للمعتقدات أيضاً أن تؤثر على كيفية تفسير الأفراد المعلومات التي يتلقاها أو حتى يبحث عنها، وما أكثرها في عصر المعلوماتية والأجهزة الرقمية، هذا قبل أن نتكلم عن ظاهرة "الذباب الإلكتروني"، خصوصاً في ما يتعلق بتفسير معلومات مضلّلة بالأساس، لدى شريحة واسعة من الشعب السوري، في معالجة كل حادثة وفهمها، شريحة تؤمن بنظرية المؤامرة، التي يبدو أنها أساسية لدى كل نظام حاكم، فتقدّم هذه الأحداث دليلاً على المؤامرة. ونرى أن الاستجابة العاطفية المبنية في الغالب على تمكّن المعتقدات في الوعي الجمعي للجماعة قد تصعّب تقبّل المعلومات أو وجهات النظر الجديدة التي تتعارض مع تصوّرها، إذ غالباً ما تكون المعتقدات مشتركة داخل المجموعات الاجتماعية، ويمكن تعزيزها من خلال الأعراف الاجتماعية. وقد يكون الأفراد أكثر ميلاً إلى تبنّي المعتقدات المشتركة في مجموعتهم الاجتماعية والدفاع عنها، حتى لو كانت هذه المعتقدات خاطئة أو مضلّلة، فهذا يمنحهم نوعاً من الشعور بالقوة والحماية.

لا بد للحكومة من أن يكون لديها توجّه عام، وخطط ضمن استراتيجية محدّدة، لمعالجة جراحات الماضي والندوب التي أزمنت في جسد المجتمع السوري

أضفى الطابع الشعبي على مصطلح "الوعي الجماعي" عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم، الذي استخدمه لوصف مجموعة المعتقدات والمشاعر التي يتشاركها أعضاء مجتمع معين. ليس هذا الوعي مجرّد مجموع للأفكار الفردية، بل هو ظاهرة تتجاوز الفرد، وتولد إحساساً بالهوية الجماعية. وتتجذّر هذه الأفكار في المجموعة الاجتماعية، فتنتقل من جيل إلى جيل، وتشكّل حياتها اليومية، هذه الأفكار والمعتقدات تزداد تطوراً وامتلاءً بما يخدم عقيدتها الأصلية وهدفها مع الوقت، خصوصاً في هذا العصر، عصر المعلومات والسرعة في الوصول، وعصر الحروب والأزمات العالمية. غالباً ما يتجلى الوعي الجمعي أو الضمير الجمعي في لحظات الأزمات، أو المناسبات الاجتماعية المختلفة، وسيلة لتعزيز الهوية الخاصة وإبرازها، خصوصاً في مناسبات الفرح بالنسبة لبلداننا، وإذا أخذنا سورية مثالًاً، نرى أدلة عديدة، منها مثلاً الانقسام بين مكوّنات المجتمع بشكل لافت حول أي اسم برز في مجالات الإبداع المتنوّعة، بينما في المواقف المأساوية، مثل الهجوم أو الكارثة الطبيعية، ترتفع موجة من التضامن. يجتمع الناس لدعم الضحايا، هذا له علاقة بمجموعة القيم العامة التي حملها بشكل أساس "ديوان العرب"، إنما في لحظة ما، تنتصر على هذا السلوك الضمائر الفرعية التي تخصّ كل مجموعة بمفردها. إذا كان الوعي الجماعي يمكن أن يعزّز الروابط الاجتماعية، فإنه يمكن أن يستبطن أيضاً أخطاراً. واحد من أكبر الأخطار هو التفكير الجماعي، حيث يمكن أن تؤدّي الرغبة في التنسيق داخل مجموعة إلى اتخاذ قراراتٍ غير عقلانية. وغالباً ما يحدث هذا في سياقاتٍ تُقمع فيها الآراء المتباينة للحفاظ على الوحدة. هذا ما نجده شائعاً اليوم في المجتمع السوري بمختلف مكوّناته المصنفة على أساس ديني/ طائفي/ قومي، فعلى سبيل المثال، تنامي ظاهرة تشكيل مجالس أو مجموعات تقدّم نفسها أنها تمثل جماعة معينة، خصوصاً لدى بعض الأقليات الطائفية أو الدينية.

الوعي الجماعي ليس ظاهرة ثابتة، بل هو فضاء ديناميكي في تطوّر مستمر، فهو يستحقّ أن يجرى استكشافه ورعايته من أجل السلم في المجتمع

لا بد للحكومة من أن يكون لديها توجّه عام، وخطط ضمن استراتيجية محدّدة، من أجل معالجة جراحات الماضي والندوب التي أزمنت في جسد المجتمع السوري ووجدانه. ولا بد أيضاً من الشفافية في إطلاع الشعب بكامله على نتائج تدبيرها وتعاطيها مع المشكلات التي تعزّز من سطوة المعتقدات وتقسيم الوعي العام الجامع للسوريين إلى أنماط مختلفة من الوعي الخاص بمكوناته المختلفة، ولا بد أيضاً من محاسبة كل المرتكبين بعد تحقيقات متخصّصة ونزيهة، بالإضافة إلى المباشرة بتطبيق العدالة الانتقالية التي ينتظرها معظم السوريين، وتفعيل ما يعزّز التفاعلات الاجتماعية، وبنشط العلاقات الشخصية الضرورية في المجتمع، بعدما كادت تجهز عليها ممارسات وخطاب الكراهية الذي ازدهر في الفترة الخيرة. وتنشيط الفكر النقدي أو تشجيعه، والقدرة على السؤال كي لا يقع الأفراد في فخ المعلومات المضلّلة، خصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي ظل تضخّم الذباب الإلكتروني ودوره في تعزيز المعتقدات التخريبية.

من المهم إدراك تأثير المعتقدات لتطوير فهم أدقّ لمختلف القضايا، وتعزيز تواصل أكثر فاعلية. وبما أن الوعي الجماعي ليس ظاهرة ثابتة، بل هو فضاء ديناميكي في تطوّر مستمر، فهو يستحقّ أن يجرى استكشافه ورعايته من أجل السلم في المجتمع وطمأنينة أفراده ومكوناته.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows