
خلال حرب أميركا على العراق سنة 2003، كتب الأنثروبولوجيون الأميركيون، بقيادة الأنثروبولوجي ذائع الصيت مارشال سالنز، بياناً ندّدوا فيه بشدّة باستعمال الجيش الأميركي من يمكن تسميتهم "الأنثروبولوجيين التطبيقيين" الذين كانوا يستخدمون المعرفة الأنثروبولوجية لمساعدة القوة المحتلة على النفاذ استخبارياً إلى تفاصيل النسيج العلائقي والهوياتي الضيق للسكان المحليين، قصد توظيف طاقاتها التصارعية والتحالفية في صناعة العملاء واستغلالهم لفائدتها. وكان الحاكم الأميركي المعيّن في العراق بول بريمر قد جلب معه الأنثروبولوجي الأميركي الشهير ديل أيكلمان لإدارة هذه العملية من الكويت (ذكر لي أيكلمان بنفسه أن بريمر هو من فتح له مكتباً في الكويت في تلك الفترة).
واليوم، تخرج علينا الأخبار تتهم بشكل غامض طوائف دينية وعرقية بعينها بأنها كانت أكثر الأوساط الاجتماعية التي استغلتها أجهزة المخابرات الإسرائيلية والأميركية، والغربية عموماً، في زراعة الجواسيس و/أو تجنيد العملاء المحليين وتدريبهم للعمل معها. وبطبيعة الحال، تُستخدم هذه الاتهامات أحياناً من أجل تحقيق أهداف سياسية إقصائية عامة - خاصة، في سياقات الأزمة، وعند استحواذ قوى متسلطة ومنغلقة الفكر على الدولة، أو من أجل اختراع "نعاج جرباء" وجب عزلها وحتى ذبحها لترتاح الجماهير الخائفة، التي تطلب الانتقام والتطهّر من "الأجسام الخبيثة الدخيلة". لكن ذلك لا يلغي الوجه الآخر من الحقيقة، أن التجسّس يعتمد تكنولوجيات المراقبة وتتبع المعلومة، كما يعتمد العلوم الاجتماعية والإنسانية، وقد ادّعت المخابرات الإسرائيلية أنها درست "سلوك" القادة الإيرانيين وشخصياتهم لتتمكّن من مراقبتهم، ثم من اغتيالهم في أول هجومها على إيران.
ماذا يعني أن تستخدم قوى التجسّس الأنثروبولوجيا عموماً، وفي الحالة التي أُشير إليها الأنثروبولوجيا الكولونيالية؟ من الناحية الأكاديمية، نشأت الأنثروبولوجيا في سياق استشراقي ثم كولونيالي، والغرض كان التعرّف على نسيج المجتمعات المستعمَرة للفعل فيها وتغيير أنماط حياتها بما يناسب المصالح الكولونيالية، لذلك اشتغلت الأنثروبولوجيا الفرنسية، على سبيل المثال، في البلاد المغاربية بصفة أولية على القبائل والزوايا، بوصفها أطراً تنظيمية ثقافية اجتماعية، يمكنها حشد السكان ضد المستعمِر، والمِلكية العقارية بوصفها مفتاح الدخول إلى النسيج الاقتصادي. وكان الجيل الأول من الباحثين في هذه القضايا، في كل أنحاء العالم، ملحقين بالجيوش والإدارات الاستعمارية التي تكيّف لهم الأسئلة، وتنتظر منهم إجاباتٍ عملية دقيقة. والعمل النموذجي في كامل البلاد المغاربية قام به العسكري دي أغسطيني حول سكان ليبيا لصالح الجيش الإيطالي. بعد ذلك، تطورت الأسئلة الأنثروبولوجية، وخرجت من سيطرة الإدارات العسكرية والمدنية الكولونيالية لتصبح أسئلة معرفية أكاديمية، وأنتجت، في هذا المجال، أعمالاً رائدة تتعلق بالبنى الذهنية الثقافية وبالعلاقات الاجتماعية في المجتمعات ما قبل الرأسمالية الصناعية، حتى وإن تأثرت في الخلفية بعلاقة الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية للبلدان المُستعمرَة على سكّان المستعمرات، ما أسبغ عليها معرفة إثنومركزية، أي تقودها الخلفية الثقافية لنموذج الحداثة الغربي.
هل تغيّر العصر؟ نعم، لقد دخلنا الثورة النانوتكنولوجية التي ستغيّر ليس الاقتصاد والثقافة والمجتمع فحسب، بل والخرائط الذهنية والطبوغرافية - السياسية. هل تغيّر سياق إنتاج المعرفة في العلوم الاجتماعية؟ إبستيمولوجياً، يمكن أن نجيب بنعم نسبية، وهذا التغيّر طاول قدرتنا على تمثّل أسس العلاقات الاجتماعية الجديدة وأدوات البحث فيها برصيدنا المعرفي الحالي. أما على مستوى علاقات هيمنة القوى الاستعمارية القديمة - الجديدة بنا، فالجواب هو لا... إلى أن يحين التحرّر من هذه العلاقة.
نشأت الأنثروبولوجيا في سياق استشراقي ثم كولونيالي، والغرض كان التعرّف على نسيج المجتمعات المستعمَرة للفعل فيها
بهذا، نأتي إلى مربط الفرس: الأنثروبولوجيا الكولونيالية والتجسّس. في الفترات الاستعمارية الأولى، كان أغلب الذين وفروا معلوماتٍ تخصّ تفاصيل حياة الشعوب المستعمرة، حتى وإن كانت أحيانا ملفقة، هم العسكريون والإداريون والمكلفون بكتابة التقارير الاستخبارية، أي أن هؤلاء لم يكونوا يشتغلون على مواضيع بحوثهم بأسئلةٍ معرفيةٍ نظريةٍ مستقلة، تتعلق مثلاً بأصل التبادل في المجتمعات الإنسانية. وحتى عندما انضمّ إلى هؤلاء في فترة لاحقة مؤسّسون للانثروبولوجيا (مثل إفنس برتشر) كانوا يكتبون مباشرة لصالح الجيوش المحتلة (يهدونها أبحاثهم)، رغم أن دراساتهم كانت تستجيب للشروط الأكاديمية. كان هؤلاء يوفرون صوراً تقريبية عن مكوّنات المجتمعات موضوع المشاهدة، تساعد السلطات الاستعمارية على استغلالها من أجل إخضاع هذه المجتمعات والسيطرة عليها. ولأن السيطرة على المجتمعات تقتضي، في ما تقتضيه، الكشف عن خصائص ديناميكيتها الاجتماعية (عناصر الوحدة والتفكّك) فإن كل معرفة بهذه الديناميكية كانت قابلة للاستخدام السياسي المباشر أو غير المباشر من أجل بلوغ هذا الهدف.
هل نحن في سياقٍ مشابهٍ كي تتحوّل المعرفة الأنثروبولوجية إلى سلاح فتّاك غير مرئي في يد القوى الاستعمارية القديمة يمكن استخدامه في تجنيد الجواسيس والعملاء، كما يحدُث حالياً في إيران؟ هناك حقيقة موضوعية تثير الانتباه في هذا الموضوع، أن القوى الاستعمارية القديمة أعادت بعد 2011 نشر الكتب التي كتبها هؤلاء العسكريون والإداريون والمخبرون والأكاديميون الذين اشتغلوا في ركاب الجيوش الغازية، ومجمل هذه الكتب تفصٍل في المكونات القبلية والطرقية والعرقية والجهوية للمستعمرات القديمة (على سبيل المثال: كتب "سكّان ليبيا" ونشر سنة 1917، و"مدونة القبائل التونسية" في 1883، و"قبائل شمال ووسط الجزيرة العربية" في 1915، و"النوير" في 1940)! ما القيمة العملية لهذه المعرفة اليوم إذا كان التقسيم الاجتماعي للعمل والتصنيع وعولمة شبكات التواصل قد تسبّبت في تفكيك الارتباطات القديمة، وأضعفت من قيمتها المعرفية؟ من الناحية الأكاديمية، جرت تعديلاتٌ كبرى على موضوع المعرفة الأنثروبولوجية، نقلتها من دراسة المجتمعات "البدائية" إلى دراسة المجموعات المحلية الضيقة والفئات المميّزة والتثاقف ونحو ذلك، ولم يعد الاهتمام بالقرابة، على سبيل المثال، بوصفها بنية مبهمة ينبغي فكّ شفرتها الثقافية موضوع اهتمام. ماذا بقي إذاً؟ بقي هدف السيطرة على الآخر، ومن شروط هذه السيطرة من المنظور الكولونيالي الحداثوي، حرمانه من اكتساب التكنولوجيا المتقدّمة صناعياً وتعليمياً، ومن البنى الحديثة للعيش المشترك ذهنياً ومؤسّساتياً وفق مفاهيم الحرية والعدالة. ولكي يتحقّق ذلك، تجب إعادة إحياء مفاهيم ومرجعيات ما قبل الدولة - الأمة، والمجتمع المدني بمضمونه الحديث، وهذه المرجعيات هي مرجعيات الانتماء القبلي والمذهبي والعرقي والجهوي والفئوي، وإعادة المفاهيم المتعلقة بها إلى الوعي، وتحويلها إلى أدوات فهم وتقويم للعلاقة بالآخر القريب، فلا يبقى سوى إشعال طاقاتها التفكيكية بالأزمات الاقتصادية والإرهاب والتدخّل الخارجي. واليوم توجد نوادي "ثينك تانك"، مركزها أوروبا وأميركا، تعيد إنتاج هذه المعرفة بالدمج بين "المعطيات" الأنثروبولوجية القديمة والتحليلات الجينية التي يُراد لها أن تقرأ ثقافياً لتوليد بيئة من الصراعات الأفقية التي لا تنتهي، والتي لا أفق لها سوى الانتصار الوهمي لفئة ضيقةٍ على أخرى.
من شروط السيطرة على الآخر من المنظور الكولونيالي الحداثوي، حرمانه من اكتساب التكنولوجيا المتقدّمة صناعياً وتعليمياً، ومن البنى الحديثة للعيش المشترك ذهنياً ومؤسّساتياً
عندما يتم إيجاد هذه البيئة، تضعف هوية الانتماء إلى الوطن، إلى الأمة، إلى كل كيان جماعي يشمل الكل، مؤسّساتياً وسياسياً، فيُفتح باب خدمة الأنا والمجموعة الضيقة على مصراعيْه، ويتحوّل الجواسيس الخونة إلى "شاطرين" ذوي نفوذ ومطلوبين للسياسة. وللتأكد من هذه المؤامرة ضد عالمنا العربي والمغاربي (وتشارك في صناعتها قوى محلية)، يكفي فتح صفحات التواصل الاجتماعي للعثور على مجموعاتٍ بأسماء مموّهة، كل متخصّص في بلد، تنبش بحرفية في تاريخ ما قبل الدولة الحديثة في مجتمعاتنا، فتهتم بشكل مغرض طوراً بهذه القبيلة أو الطريقة الصوفية أو المجموعة العرقية أو المذهب الديني، وطوراً بأخرى تقدّمها عدوّة أو منافسة، لينخرط في النقاش والصراع أشخاصٌ وهميون يجلبون إليهم بسطاء محليين مهمّشين وغاضبين، يتصارعون ويتفاخرون بعضهم على بعض، مستخدمين مدوّنات قديمة، هناك من ظنّ أنها ذهبت إلى غير رجعة. ومن هؤلاء وغيرهم في مفاصل المؤسّسات يجرى تجنيد العملاء في انتظار أن تحين فرصة انفجار الصراعات الأفقية.
يحاول القادة المغاربيون اليوم فهم الحالة الليبية والتعامل معها على أنها بؤرة خطر داهم. وفي الحقيقة هم لا يدركون، بمن فيهم الإخوة الليبيون، أن ترك ليبيا من دون حل سياسي بمثابة رعاية نار خامدة تشتعل، في انتظار أن يحين وقت النفخ فيها لتصبح مغاربية ملتهبة، وهذه هي البيئة المؤاتية لاستخدام الأنثروبولوجيا في التجسّس وإحداث الأزمات والانقلابات وجني ثمارها. ما زالت حادثة مروحة باشا الجزائر قابلة للتكرار، إذا ظل القادة المغاربيون غافلين على هذا الخطر المُحدق، ولا نرى لهم ما يشي بأن أعينهم مفتوحة.

Related News
