
قال المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف إنّ بلاده تُجري محادثات وصَفها بأنّها "ناجحة" مع دول عربية، بشأن الانضمام إلى "اتفاقات أبراهام". وأوضح، في مقابلة مع قناة "CNBC"، أنّ "أحد الأهداف الرئيسية للرئيس دونالد ترامب توسيع نطاق "اتفاقيات إبراهام، وأنّه يأمل أن يشمل التطبيع دولاً ربّما لم يكن يخطر ببال أحدٍ أنّها قد تفكِّر في التطبيع، ذات يوم". فيما صرّح رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بأنّ هناك فرصةً لـ"توسيع اتفاقات السلام".
ولم يكن هذا المسعى الأميركي مفاجئاً، تثميراً لزخَمٍ تراه إدارةُ ترامب، بعد ما حققته؛ جرَّاء انخراط أميركي في استهداف منشآت إيران النووية، في سياق حرب إسرائيل على إيران؛ جرياً على نهج أميركي سابق، في استثمار أحداث كبرى، كما فعلت، عقب حربها على العراق، حين دعا الرئيس الأسبق جورج بوش الأب إلى عقد مؤتمر مدريد للسلام 1991، بعد أن قادت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً ضمَّ دولاً عربية لإخراج القوات العراقية من الكويت. لكنَّ فارقاً ماثلاً بين السياقين، إذ في مؤتمر مدريد كانت المتمنِّعة دولة الاحتلال، ولم يستطع بوش دفْع رئيس حكومة إسرائيل إسحاق شامير إلى المشاركة، إلا بعد التلويح بتعليق المعونة الأميركية السنوية لإسرائيل. أما اليوم، فتجد إسرائيل أمامها فرصةً سانحةً يجب المسارعة إلى اغتنامها، بناءً على تقدير قادتها أنّ الظرف مناسب لفرْض ما تريد، إلى أبعد الحدود؛ فما سرُّ هذه السانحة؟
بعد أن أُجهِض الربيع العربي، في دول عربية، ووقعَت دولٌ أخرى، في مخاضات، كما في سورية، التي لا تزال تُحاول وتعاني، انزلقت دولٌ عربية في حالة إنهاك، عامّ، لعلَّ المجال الاقتصاديَّ أبرزُه، ولا يُستهان بالآثار الاجتماعية والنفسية، تحت اهتزازات قِيَمية، ذات طابع شبه كلِّي، من دون أن يصحَّ الحكم، بحدوث انسلاخ عميق من تلك القيم، لكنها متاعب المرحلة. ومن النقاط الإيضاحية سورية، حيث أدَّت تفاعلاتُ الثورة وتداعياتُها؛ وصولاً إلى التخلُّص من نظام الأسد المروِّع، إلى تقديم أولويات الحالة السورية الملحَّة على اعتبارات خارجية، قومية، أو حتى وطنية.
ولم يقتصر هذا الإنهاك على بلاد عربية، بل طاول فلسطين المحتلة، ليس بفعل عملية طوفان الأقصى، وفي حدود جغرافية غزّة، بل كانت شراسة الاحتلال والاستيطان والتهويد قد قفزت قفزةً واسعةً، قبل الحرب الإبادية الطاحنة على القطاع، وعلى أهله المنكوبين. ومن دون أيِّ صلةٍ مباشرة أو ارتباط سببي معقول، تغوَّل المستوطنون من ذوي الطبيعة الإجرامية المؤسَّسة على نزعات دينية وقومية عنصرية ومتطرفة، في عمليات إرهابية منظَّمة، كان آخرها الاعتداء على قرية كفر مالك والقتل الهمجي لثلاثة من أبنائها، الذي نفَّذه مستوطنون إسرائيليون متطرفون، بحماية من جيش الاحتلال.
وبعد الضربة التي تلقَّاها ما سمَّى محور المقاومة، غير حركات المقاومة في فلسطين، كتلك الضربات المُوجعة لحزب الله، في لبنان، ثم أخيراً، ما تلقَّته إيران، في الحرب أخيراً، وإنْ لم تكن من دون ردٍ هزّ كيانَ إسرائيل بالنَّيْل منها، في مراكز ثقلها الديمغرافي، والعلمي، والدفاعي، حيث لم توفِّر منظومات دفاعاتها ضدَّ الصواريخ الإيرانية الحماية الكافية، فأمكن ذلك إيران من التلويح بحربِ استنزاف، لا تحتملها دولة الاحتلال، اقتصادياً ومعيشياً ونفسياً، (ما دعاها إلى الاستنجاد العلني بأميركا)، وخصوصاً بعد ما قارب العامين من المواجهة، في غزّة، مع حركات مقاومة لا تلين، ولا تزال تُوقع خسائر مؤلمة بجيش بدَت عليه علاماتُ الإنهاك، ونفاد الدافعية.
مع ذلك، لم تخرج إيران من هذه الحرب بنفَسٍ طامحٍ إلى أدوار كالتي كانت قبل سقوط الأسد، وقبل تضعضُع حزب الله، وقبل أن تخسر هي قيادات عسكرية وكفاءات علمية فريدة، وقبل أن تلمس جِدِّية الموقف الأميركي في دعْم أهداف إسرائيل، ولو بتجشُّم مخاطر حرب تتورَّط فيها أميركا، مرةً أخرى، في المنطقة. وهنا تلوح أخبار التطبيع وتوسيع اتفاقات إبراهام، على مثل هذه الأرضية وبخلفية يمينية إسرائيلية تستطيع ادِّعاء الردع، أو تستطيع المباهاةَ بفاعلية القوة، وبجدوى فرض السلام بالقوة، السلام المعادل للاستسلام والإملاءات.
لا يُمكن أن تنجح أيُّ تصفية لفلسطين وقضيتها، ما دامت الدول العربية والإقليمية والسلطة الفلسطينية غير منخرطة فيها
خطورة هذه الحالة أنْ تُستغَلَّ في تمرير اتفاقات يرى نتنياهو أن فرصتها سانحة، وأن لكلَّ يوم أهميته، في المسارعة إلى تكريس وقائع ذات بعد مستدامٍ، عبر اتفاقات متعجِّلة، تقوم على ابتزازاتٍ ومقايضاتٍ تبتعد حتى عن مقولات العملية التفاوضية السابقة، من قبيل "الأرض مقابل السلام"، إلى معالجات سطحية تُقزِّم الآمال، وتُغلق الأبواب، وتُصادر حقَّ الأجيال المقبلة، بالحقوق الفلسطينية والعربية، أو تُكبِّلها بقيودها وسقوفها الخفيضة. هذا مع علمنا بمآلات مثل تلك التسويات، التي قامت على تثمير فترات تراجُع، أو انكسار، تاريخياً، وعالمياً.
وبالنظر المنطقي إلى السلام مع إسرائيل، يظهر أنّ الاشتراطات غير المحقَّقة، ليست إيرانيةً، بقدر ما هي عربية، عبْر الموقف العربي الرسمي المعبَّر عنه في القمم العربية، وخصوصاً قمَّة بيروت 2002، التي تبنّت المبادرة العربية للسلام، وهي التي تمثِّل الحدَّ الأدنى المقبول. وما دامت حكومات إسرائيل المتعاقبة تتجاهل تلك المبادرة، بل وترفضها، بل تعمل على إجهاض حلّ الدولتين بخطى حثيثة، على مستوى الأفعال والأقوال، كما تعمل، وبجدّية، في قطاع غزّة وفي الضفة الغربية، على ارتكاب نكبة ثانية، وتهجير واسع للفلسطينيين، فإن انكماش إيران، أو انشغالها، وفق ما يتوقَّع، ليس دافعاً منطقياً لاجتراح مثل هذه التنازلات الخطيرة.
ومع أنّ إيران تمثِّل داعماً حيوياً لحركات المقاومة في فلسطين، وانهماكها في التعافي وترميم القوة، واحتياجها إلى تركيز مقدَّراتها الاقتصادية ومواردها على هذه الغاية ذات الأولوية الملحَّة، مِن شأنه أن يُخفِت تأثيرَها، إلا أنّ المسألة هنا ليست حركات المقاومة، ومدى تأثيرها في عرقلة تسويات مجحِفة، بقدر ما هو الشعب الفلسطيني، وقضيته، ومستقبل أبنائه، بل ما يطاول تلك الحالة التطبيعية من إعادة صياغة ما يسمَّى بالنظام العربي، ومساحات القرار الوطني ومعنى الأمن القومي العربي، بعد اندماج إسرائيل المفترَض في المنطقة، على ما هي عليه من احتلال لا يوضع له حدّ.
انزلقت دولٌ عربية في حالة إنهاك، عامّ، لعلَّ المجال الاقتصاديَّ أبرزُه، ولا يستهان بالآثار الاجتماعية والنفسية، تحت اهتزازات قِيَمية
لا شيء يُجبر دولاً إقليمية وعربية كبيرة (عندما تستحضر خطورة إبرام صفقات تطبيعية تتجاوز فلسطين وحقوقها، على الجميع) على الانسياق إلى هذه الحملة المصطَنعة. تستطيع دولٌ، كتركيا والسعودية، مثلاً، من دون إعفاء مصر، أو غيرها، بما لها من ثقل وأدوات الثبات على مواقفها واشتراطاتها التي لم يطرأ ما يدعو إلى التخفيف منها، بل طرأ ما يعزِّز الحذر والتشكيك، في ظلِّ طفوِ هذه الطبقة السياسية في دولة الاحتلال، هذه الطبقة المدجَّجة بالأيديولوجيا المتطرّفة، والمندفعة بالزَّهْو والصَّلَف، إلى دهْس المسلَّمات، وتوسيع الطموحات حتى خارج فلسطين.
كما أن من شأن الربط بين إنهاء الحرب العدوانية على غزّة والتوصل إلى تسوية سياسية دائمة، أن يُمثِّل عنصراً ضاغطاً ومساوِماً، فلو أراد نتنياهو، فإن خيارات عديدة يمكن أن تُقصى بها حركة حماس عن حكم غزّة، ولكنّه يعطي إشارات على مجاراته وزراء متطرّفين في ائتلافه، عن إعادة احتلال غزّة، وتهجير أهلها، كي يُعيق أيَّ حلٍّ ممكن.
وبعد، لا يُمكن أن تنجح أيُّ تصفية لفلسطين وقضيتها، ما دامت الدول العربية والإقليمية والسلطة الفلسطينية غير منخرطة فيها. والضغوط، والأثمان، التي قد تُهدِّد بها إدارة ترامب، لا تقارَن بفادِحة التساوُق مع طموحات نتنياهو وترامب، وكما أن ترامب ونتنياهو حريصان على قطْف الثمار، فإنهما، (وحالةُ دولتيهما)، ليسا في موقع السلامة من المتاعب، والطاقة والاستعداد لصراعات مفتوحة، وليسا في كامل التعافي؛ ما يعني أن أيَّ تغييراتٍ عميقة في المنطقة ستكون مقامرة مفتوحة على المجهول.

Related News
