
سُئِلَ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن الاثني عشر يوماً من الجحيم الذي صنعه وأشعله ثم أطفأه فجأة، فردّ بأن إيران وإسرائيل تشاجرا مثل أطفال مدرسة، وكان لا بُدّ من تركهما للشجار قبل أن يتدخّل الأب بلهجة حازمة وكلمة معيّنة لإنهاء المعركة.
لا يكتفي الرئيس الأميركي بانتحال صفة الأب المسؤول عن العالم من شرقه إلى غربه، بل يضيف إلى ذلك بعضاً من الصفات اللاهوتية، فيسلك باعتباره المرجعية الروحية "البابا" للدنيا كلها، شعوباً وحكومات، إذ يجمع الرجل بين الكهنوت السياسي واللاهوت الديني تحت قبّعة حمراء مكتوب عليها "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً".
هو إذن ظلّ الله على الأرض، يمارس القتل والتدمير والكذب والخداع والابتزاز باسم الرب الذي أرسله ليقيم الدنيا بعد أن يحرقها ويدمّرها بيده المقدّسة، ويحيي البشر بعد أن يرسلهم إلى الموت بقاذفات B2 وB52 لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو وفريقه الرئاسي، وليس بوسع العالم سوى الانصياع لمشيئة الملك الإلهي، أو المختار كما وصف نفسه منذ عرفه العالم في فترته الرئاسية الأولى بأنه المكلّف من السماء لإنجاز كلّ ما يقوم به، سواء تهويد القدس أو محاربة الصين تجارياً. "أحدٌ ما كان عليه أن يقوم بهذه المهام"، قال ترامب قبل أن ينظر إلى السماء، ويفتح ذراعيه قائلاً "أنا هو المختار". ثم في رئاسته الثانية، هذا "المختار" صار أكثر شراسة في ابتعاثه الثاني قادماً من السماء، ليرأس العالم مستبيحاً كلّ ما على الأرض من ثرواتٍ ودول، وحده المخوّل بإعادة ترتيبه وتقسيمه جغرافياً وسكانياً، بقوّة السلاح والكهنوت، ولم لا وهو معيار كلّ شيء، آراؤه نصوصٌ مقدّسة، وانحيازاته أحكامٌ قطعيةٌ لا تُردّ، يسبّ من يشاء، صحافيين وسياسيين، فهم إما كلابٌ وكذّابون كما تكلّم عن مراسلة "سي أن أن"، أو أغبياء كما قرّر في المرشح الديمقراطي لمنصب عمدة نيويورك زهران ممداني "مسلم وشيوعي مهووس ومتطرّف وجميع من يقفون خلفه أغبياء".
وفي لحظة كان الظن أنها تكتسي بجلال حزن الغرب على وفاة البابا فرنسيس، فاجأ دونالد ترامب الجميع بصفاقته ورغبته في اقتناص الفرصة، ليقول "أريد أن أصبح البابا"، غير مكتفٍ بحكم أميركا ولا امتلاك أندية الغولف، ولا بالضربات الجوية التي وزّعها بسخاء على الشرق الأوسط، ليطلب زعامة الدين بمباركة السماء…
ترامب، الذي لطالما خلط الدين بالوطنية بالسوق السوداء للسلاح، قرّر، في لحظة جنونية تشبهه، أن يرتدي زيّ البابا الأبيض… ليس بحثاً عن قداسة، بل عن منصّة جديدة تُبرّر له زعامته المطلقة، وتُلبسها عباءة روحية. فلنتخيّل ترامب فوق الكرسي البابوي حاكماً جديداً على الفاتيكان، مُحاطاً بأجواء عسكرية استعراضية، هنا تتحوّل قداسات الأحد إلى عروض مهيبةٍ للقنابل الخارقة للتحصينات، والبابا ترامب يتوجّه إلى الرب بالدعاء "بارك هذا الطراز من F-35، واهدِ به أعداءنا الذين لا يتجاوبون مع العقوبات".
ولم لا يمنح الرجل الذي يمزج في نسخته اللاهوتية الجديدة الروحانية بالردع النووي نفسه ألقاباً كنسية جديدة: "بابا الحرب العادلة"، "أسقف العقوبات"، و"المخلّص من محور الشر". أو يعلن نفسه رسول الديانة الإبراهيمية الجديدة، ويكتب على باب مكتبه البيضاوي: "قبل أن تحبّوا أعداءكم اقصفوهم بطائرات F35 وقاذفات B52".
هذا الجنون الذي يحكم العالم بالكهنوت والأسطول أفردت له مجلة نيويوركر، الأميركية، مقالاً طويلاً للكاتب دايفيد ريمنيك، في فبراير/ شباط الماضي، شرح فيه كيف ينتهج ترامب "نظرية المجنون" لتمرير مشاريعه وصفقاته وفرضها على العالم، فكتب "قبل أكثر من 500 عام، اقترح مكيافيلي، فيلسوف الممارسة السياسية والجمهوريات الحديثة، في كتابه "Discourses on Livy" أنه "في بعض الأحيان يكون من الحكمة للغاية التظاهر بالجنون". ويبدو أن ريتشارد نيكسون، وفقاً لرئيس أركانه هالدمان، قد توصّل إلى نتيجةٍ مماثلة، بقوله "أسمّيها نظرية الرجل المجنون يا بوب. أريد أن تعتقد فيتنام الشمالية بأنني وصلت إلى النقطة التي يمكنني فيها فعل أي شيء لوقف الحرب. وسنخبرهم بأن نيكسون مهووس بالشيوعية، ولا يمكننا كبح جماحه عندما يكون غاضباً، وبيده الزر النووي، وسيكون هوشي منه نفسه في باريس خلال يومين متوسلاً من أجل السلام". ... وتلك هي النظرية ذاتها التي يدير بها ترامب ملفات الشرق الأوسط، من غزّة إلى طهران.

Related News
