
بات النضال من أجل حقوق الإنسان يمثّل تحدّياً لافتراضاتٍ بنيت عليها الحركة العالمية لحقوق الإنسان، إذ كان الافتراض الأساسي أن انتهاك الحقوق سوف يجيء من البلدان حديثة الاستقلال، بلدان العالم الثالث، وأن فرض الحقوق سوف يكون مسؤولية القوة الكبرى، الولايات المتحدة. وجرى دعم هذا الافتراض بواسطة الاعتمادات المالية التي خصّصتها القوة الكبرى. لكن احتلال العراق قلب تلك الافتراضات رأساً على عقب، إذ ماذا علينا أن نفعل عندما تصبح القوة العظمى الوحيدة المصدر الأساسي لانتهاك حقوق الإنسان؟ ... هذا رأي الأكاديمي الأوغندي من أصل هندي، محمود ممداني، في كتابه "المسلم الصالح. المسلم الطالح... أميركا وصناعة الحرب الباردة وجذور الإرهاب"، الصادر في سنة 2004 (نقله إلى العربية فخري لبيب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009)، ردّاً على تداعيات تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، في 11سبتمبر (2001). وقد تذكّرت الكتاب المهم بعد إعلان تصدّر نجل كاتبه، زهران ممداني (34 سنة)، انتخابات الحزب الديمقراطي التمهيدية لرئاسة بلدية نيويورك، والتي أصابت قواعد اليمين الأميركي الأبيض بصدمة، إذ بات ممكناً أن يتولى مسلمٌ من أصول جنوب آسيوية المنصب الهام.
وُلد زهران في 1991 في العاصمة الأوغندية كمبالا، وانتقل إلى نيويورك مع أسرته في السابعة من عمره، ورغم أنه حصل على الجنسية الأميركية في 2018، إلا أنه تمكّن من التقدّم على 11 مرشّحاً، منهم حاكم الولاية السابق أندرو كومو. ويقيني أنه متأثر بمسيرة والده الطويلة الداعمة حركات التحرّر في العالم، وبانتقاداته النزعة الاستعمارية الغربية، والهيمنة الرأسمالية على المجتمعات. ما يجعل صدمة اليمين الأبيض مبرّرة نوعاً ما. ليس ذلك فقط، فالمرشّح الشاب مناهض علناً سياسات الرئيس دونالد ترامب الرأسمالية، وداعم للتحرّر الفلسطيني، وأسّس، في أثناء دراسته الجامعية، جمعية "الطلاب الداعمين للعدالة بفلسطين"، وهو ينادي بتطبيق سياسات مثل جعل المواصلات العامة مجانية، وتجميد زيادات الإيجارات، وتحصيل مزيد من الضرائب من ذوي الدخل المرتفع، ما عرضه لحملة تشويه كبيرة جعلت من انتقاده لإسرائيل معاداة للسامية، في حين تضم نيويورك أكبر عدد من اليهود خارج الشرق الأوسط، كما جلبت عليه غضب رجال الأعمال والمليارديرات الذين يعيشون في ذات المدينة. ولا يمكن أيضاً تجاهل التركيبة العرقية والاجتماعية والثقافية لزهران ممداني، فوالده أوغندي الجنسية صاحب الأصول الهندية أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا العريقة، ووالدته المخرجة السينمائية الهندية ميرا ناير، وقد تزوّح أخيراً من الفنانة السورية راما دوجي، ويدعمه بالأساس الشباب والملونون واللاتين، ومعهم السناتور بيرني ساندرز والنائبة ألكسندريا أوكازيو كورتيز. ولكن كل هذا التمايز يستخدم ضده أيضاً، فاليمين الأبيض يعتبره مرشّحاً من خارج السياق الاعتيادي، وهناك من يستخدمون، بفجاجة، ميراث العنصرية المتجذّر، والذي يعتبر أي ملوّن، وأي مسلم، شخصاً طالحاً.
المرشّح الشاب زهران ممداني مناهض علناً سياسات الرئيس دونالد ترامب الرأسمالية، وداعم للتحرّر الفلسطيني
يعيدنا هذا إلى كتاب محمود ممداني، وهو مهم للغاية في السياق الشرق أوسطي الملتهب، والذي يكتوي بنار العدوان الإسرائيلي المدعوم أميركيا وغربياً على غزّة، وتداعياته التي تشمل ما جرى مع حزب الله في لبنان، وما جرى أخيراً من عدوان على إيران، وكلها مدعومة غربياً، سياسيا وعسكرياً. يقول ممداني في كتابه إن أحد الأمور الأساسية التي جعلته يقرّر إنجازه "إشارة قيلت من دون انتباه" حسب وصفه، حول "الحرب الصليبية"، في إشارة إلى ما قاله الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، عقب غزو العراق، حين فرق بين "مسلمين صالحين" و"مسلمين طالحين"، وأن المسلم الطالح هو المسؤول عن الإرهاب، بينما يشتاق المسلم الصالح إلى تبرئة اسمه من هذه الجريمة الرهيبة، وأن المسلمين الصالحين سوف يدعمون أميركا من دون شك في الحرب. ويرى الكاتب أن هذا التصريح "كان عجزاً عن إخفاء الرسالة الأساسية لهذا الخطاب الذي يفترض أن كل مسلم طالح، ما لم يثبت أنه صالح، وأن كل المسلمين قد أصبحوا ملزمين أن يثبتوا أنهم صالحون بالالتحاق بالحرب ضد المسلمين الطالحين". ويكتب: "أحكام الصالح والطالح تشير إلى الهوية السياسية للمسلم، لا إلى هويته الثقافية أو الدينية. هؤلاء الذين فكروا في الهوية الثقافية، والآن في الهوية الدينية، باعتبارها متميزة عن الهوية السياسية، لا ينسون المأزق الذي واجهه المجندون إجبارياً لحساب القوة الغربية. ألم يكن اليهودي العلماني في أوروبا وأميركا، ثم في ألمانيا النازية، مجبراً على الإقرار بأن الحداثة الغربية قد حوّلته من مجرد هوية ثقافية ودينية إلى هوية سياسية؟ ألم تكن الصهيونية التاريخية هي رد اليهود العلمانيين الذين أقنعوا بأن اختياراتهم السياسية مقصورة على هذه الهوية السياسية التي فرضت عليهم؟".
وفي مقدمته المكتوبة خصيصاً للنشر في الترجمة العربية من الكتاب، كتب محمود ممداني: "ليس هناك مسلمون صالحون متاحون في الحال، وقد انشقّوا عن المسلمين الطالحين، الأمر الذي يسمح بعناق الأولين، ونبذ الآخرين. تماماً، كما أنه ليس هناك مسيحيون أو يهود صالحون انشقّوا عن الطالحين منهم. افتراض وجود مثل هذه الأنساق يخفي رفض مخاطبة فشلنا الخاص في تقديم تحليل سياسي لأزماتنا".
ينتقد محمود ممداني الحديث عن الأصولية الدينية بوصفها نسقاً سياسيّاً، أو ربطها بـ"الإرهاب السياسي"
في موضع آخر من الكتاب، يشرح ممداني مصطلح الأصولية: إنه "تعبير ابتدع في العشرينات داخل الدوائر البروتستانتية في الولايات المتحدة، وهي مثل مذهب المحافظين، ظهرت في المشهد في فترة متأخّرة، وكما كانت المحافظة مجرّد رد فعل سياسي على الثورة الفرنسية، وليست ردّة إلى أزمان ما قبل الحداثة، كذلك كانت الأصولية أيضاً، رد فعل في إطار الدين للأوضاع السياسية المتغيرة. هناك فرق بين الأصولية المسيحية التي ظهرت في العشرينات في أميركا، والمسيحية السياسية التي هي ظاهرة نشأت في أميركا أيضاً بعد الحرب العالمية الثانية". ويضيف: عندما نتحدّث عن الأصولية الإسلامية، فالأمر يكون مضلّلاً، على الأقل، فيما يتعلق بالاتجاه السائد للإسلام السني، حيث إنه لم يضع ترتيباً هرمياً دينياً موازياً للترتيب الهرمي للدولة العلمانية، كما فعلت المسيحية التاريخية؛ لذا افتقد هذا الاتجاه مشكلة العلمانية. يمكن تطبيق الأصولية على أنماط الإسلام الشيعي، والتي طورت بالفعل تراتباً هرمياً إسلامياً.
ينتقد ممداني الحديث عن الأصولية الدينية بوصفها نسقاً سياسيّاً، أو ربطها بـ"الإرهاب السياسي"، ويقول: يجب تمييز الأصولية بما هي ظاهرة دينية عن تلك التطورات السياسية التي وصفت وصفاً جيداً، كالمسيحية السياسية، والإسلام السياسي. الأصولية الدينية تشبه حركة مضادة للثقافة، وليست حركة سياسية، ومشكلة استخدام تعبير الأصولية لوصف تلك الحركات، أنها تميل إلى مساواة الحركات التي تشكلت في سياقات تاريخية وسياسية مختلفة جذرياً، وطمس فروقها العقائدية، بما في ذلك موقع العنف في عقيدتها الدينية.
يرفض الكاتب أيضاً افتراض أن كل حركة سياسية تتحدّث لغة الدين حركة إرهابية محتملة. ويرى أن "الدليل إلى طبيعة الحركة السياسية لا يكمن في لغتها، لكنه يكمن في أجندتها، وكما أنتجت بداية المسيحية السياسية بعد الحرب العالمية الثانية في أميركا حركات متنوّعة، مثل حركة الحقوق المدنية وحركات الحقّ المسيحي، كذلك فعلت بداية الإسلام السياسي في أثناء الحرب الباردة، إذ أدّت إلى نشوء حركاتٍ ذات أجندات سياسية متباينة، بل وحتى متناقضة. الحركات المعتدلة تنظم وتثير مستهدفة الإصلاح الاجتماعي في إطار السياق القائم، أما الحركات الراديكالية فتهدف إلى كسب سلطة الدولة، إذ وصلت إلى نتيجة مؤدّاها أن الوضع السياسي القائم هو العقبة الرئيسية أمام الإصلاح الاجتماعي".
