الناجون من السجون السورية يواجهون التهميش وغياب العدالة
Arab
19 hours ago
share

حذّر تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية بمناسبة اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب، الخميس، من استمرار المعاناة الإنسانية المروعة للناجين من سجون النظام السوري، رغم مرور ستة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد. التقرير الذي حمل عنوان "سورية: الناجون من التعذيب يواجهون إهمالاً مزدوجاً" يُظهر فجوة بين وعود المرحلة الجديدة وواقع الضحايا الذين يواجهون حياتهم الجديدة دون دعم.

في بيت ريفي متواضع بريف السويداء الجنوبي جنوبي سورية، يقلّب يامن أبو مازن (48 سنةً) كفي يديه، ينظر إليهما قائلاً لـ"العربي الجديد"، "لقد تورمتا أكثر من خمسين مرة خلال سجني حتى لم تعودا قادرتين على حمل كيلوغرام من السكر. قبل 69 شهراً فقط، كنت رهن الزنزانة 2 في معتقل الخطيب الشهير، أو فرع فلسطين كما يسمى". اليوم، وبعد ستة أشهر على سقوط نظام الأسد، يجد أبو مازن نفسه وحيداً في مواجهة أشباح الماضي وجروح الحاضر، شاهداً حياً على معاناة لا تنسى.

تقرير المنظمة لم يأتِ بجديد لهذا الناجي وآلاف غيره، بل كشف مرارة الحقيقة: الناجون من جحيم السجون السورية، وخاصة سجن صيدنايا، يغرقون في دوامة صحية ونفسية قاسية، تحت وطأة غياب شبه تام لأي دعم أو تمكين. كانت معتقلات النظام البائد في سورية، أكثر من مجرد سجون. لقد كانت منظومات ممنهجة للإبادة والتعذيب، حيث اختفت آلاف الأرواح بين جدرانها السميكة. الناجون منها وخاصة من سجن صيدنايا يحملون في أجسادهم وأذهانهم سجلاً حافلاً من الوحشية. تقول منظمة العفو في تقريرها إن المعاناة تفاقمت بعد التغيير السياسي، لأن الأمل الذي راود البعض في نهاية الكابوس تحطم على صخرة الإهمال والواقع المرير.

يتابع أبو مازن: "نعم، فتحوا الأبواب. لكنهم لم يفتحوا باب المستشفى الذي يعالج الإصابات التي تسببت لي بشبه شلل في يدي، ولم يفتحوا باب العيادة النفسية التي تمسح كوابيسي. كل يوم هو معركة. أتذكر أصوات التعذيب في المعتقل كأنها الآن. أسمع صراخ السجناء الذين كانوا معي وأنا في سريري. جسدي تحول إلى خريطة للألم. الكتف المخلوع، الضلوع المكسورة، القدم التي لا تلتئم. لا أستطيع شراء المسكنات البسيطة. ذهبت إلى المركز الصحي مرة، أعطوني حبتين وأخبروني بأنّ الحكومة توقفت عن دعم المراكز الصحية. مثلنا محكوم عليه بالعذاب حتى بعد الخروج. الإفراج كان بداية جحيم آخر".

وتؤكد التقارير الطبية المستقلة، أنّ الناجين من التعذيب في السجون السورية، يعانون من إصابات بالغة التعقيد. كسور لم تُعالج بشكل صحيح وتحولت إلى تشوهات دائمة، إصابات في العمود الفقري تسبب آلاماً مبرحة أو شللاً جزئياً، تلف في الأعصاب، أمراض معدية انتشرت في الزنازين المكتظة، وأمراض مزمنة تفاقمت بسبب الإهمال الطبي المتعمد. ومع غياب أي برنامج وطني شامل للرعاية الصحية المتخصصة لضحايا التعذيب، يجد هؤلاء الناجون أنفسهم عاجزين عن الحصول على العلاج المناسب، حتى الأساسي منه. المراكز الصحية العامة تعاني من نقص حاد في الإمكانيات والأدوية، والمراكز المتخصصة في التعامل مع آثار التعذيب شبه معدومة. التكلفة الباهظة للعلاج الخاص تضعه خارج متناول معظمهم، الذين خرجوا إلى مجتمع مدمر اقتصادياً.

جروح الروح أعمق

إذا كانت الإصابات الجسدية مرئية وقابلة للتوصيف، فإن الجروح النفسية التي يحملها الناجون أشد هولاً وأكثر صعوبة في المداواة. اضطراب ما بعد الصدمة ليس مجرد مصطلح طبي، بل هو واقع يومي يعيشه معظمهم. كوابيس متكررة، ذكريات مفاجئة تنتابهم كالسيول، فرط اليقظة والقلق الدائم، صعوبات شديدة في النوم، نوبات ذعر، عزل اجتماعي، وغالباً ما يصاحب ذلك اكتئاب حاد وأفكار انتحارية. آثار التعذيب النفسي من التهديد بالقتل، مروراً بالحرمان الحسي، وصولاً إلى مشاهدة تعذيب أو قتل الآخرين تركت ندوباً عميقة في الشخصية. غياب الدعم النفسي الاجتماعي المنظم والمستدام يعني أن هؤلاء الناجين يُتركون ليواجهوا هذه العواصف الداخلية وحدهم، مما يزيد من معاناتهم ويعيق أي إمكانية حقيقية للتعافي أو الاندماج.

في حديثه لـ"العربي الجديد" يقول محمد السيوفي من ريف دمشق الذي قضى 10 سنوات في سجن صيدنايا: "خرجت من المعتقل، لكن المعتقل لم يخرج مني"، موضحاً: كل صوت عالٍ يخيفني. كل باب يضرب يجعلني أرتجف. لا أستطيع أن أتحمل وجود أكثر من شخصين في الغرفة. أرى وجوه السجّانين في كل مكان. حاولت العودة إلى عملي كفني صيانة إلكترونية، لكنني انهرت ولم تستطع يدي التحكم في كاوية اللحام، فأعصابي انهارت".

يضيف: "زوجتي وأطفالي يحاولون مساعدتي، لكنهم لا يفهمون. هم يرون أباً وزوجاً شبحاً. أحتاج إلى علاج حقيقي، إلى دواء يساعدني على النوم ليلة كاملة دون كوابيس. أحياناً أتمنى لو لم أخرج، لأن العذاب هناك كان جسدياً، أما هنا فهو جسدي ونفسي، وأشعر بالذنب لأنني عاجز عن أن أكون كما كنت". ويردف: "أخجل من النظر في عيون زوجتي وأولادي وأبي المسن، أتذكر كيف كانوا يعلقون دلاء الماء بأكثر الأماكن حساسية في جسدي ويملؤنها بالماء أثناء التعذيب لأعترف بما لم أفعله".

التهميش وغياب العدالة والمساءلة 

يواجه الناجون عقبات هائلة في محاولة إعادة بناء حياتهم. الكثيرون فقدوا سنوات عمرهم خلف القضبان، مما أفقدهم فرص التعليم أو اكتساب الخبرات العملية. البعض يعانون من إعاقات جسدية دائمة تمنعهم من ممارسة مهنهم السابقة. الوضع الاقتصادي الكارثي في سورية يجعل إيجاد فرصة عمل مهمة شبه مستحيلة حتى للأصحاء، فما بالك بمن يحملون إعاقات نفسية وجسدية. غياب برامج إعادة التأهيل المهني أو الدعم المالي المباشر يحكم عليهم بالفقر المدقع، مما يزيد من شعورهم بالعجز والإحباط ويفاقم حالتهم النفسية.

كما أن فقدان الثقة في المؤسسات الجديدة أو القائمة هو عامل آخر يثقل كاهل الناجين. فبعد ستة أشهر على التغيير، لا تزال آليات تحقيق العدالة الانتقالية ومساءلة مرتكبي جرائم التعذيب والإعدام خارج القضاء غائبة أو بطيئة بشكل مخيب للآمال. رؤية من عذبوهم أو قتلوا زملاءهم يتمتعون بالحرية أو حتى يشغلون مناصب، أو عدم معرفة مصير المختفين قسرياً من أحبائهم، يشكل إحباطاً عميقاً ويقوض أي إحساس بالإنصاف. غياب الاعتراف الرسمي بما عانوه، وضمان عدم التكرار، يحرمهم من خطوة أساسية نحو الشفاء.

يتحدث تقرير العفو عن "غياب شبه تام للدعم والتمويل اللازمين". هذا ليس مجرد تعبير، بل واقع ملموس، فلاستجابة الدولية والإقليمية لدعم الناجين من التعذيب في سورية تبقى غير كافية بشكل صادم. التمويل المخصص للرعاية الصحية النفسية والجسدية المتخصصة، ولبرامج إعادة التأهيل الاجتماعي والاقتصادي، يبدو غير متناسب مع حجم الكارثة الإنسانية وعدد الناجين الذين يقدرون بعشرات الآلاف، إن لم يكن أكثر. ومع أنّ المنظمات المحلية والدولية العاملة على الأرض تواصل جهودها، إلا أنّ إمكانياتها محدودة للغاية مقارنة بالحاجة الهائلة. ولا يوجد حالياً برنامج وطني شامل، مدعوم سياسياً ومالياً، يعترف بضحايا التعذيب كفئة لها احتياجات خاصة ويوفر لهم الدعم الشامل والمستدام الذي يستحقونه.

يقول ياسين البكر المعتقل السابق من القنيطرة لـ"العربي الجديد": "اعتقلت وأنا في العشرين من عمري، طالب هندسة. خرجت وأنا في الخامسة والعشرين، جسدي منهك، وعقلي مشتت. أريد أن أعمل، أن أستقل مادياً، أن أتزوج، أن أبني. لكن من يوظف شاباً يعرج، ويتعرض لنوبات قلق لا يمكنه التحكم بها؟ ذهبت إلى مشغل نجارة، أحب العمل، لكنني بعد أسبوع تعرضت لنوبة هلع بسبب صوت المنشار. صاحب المشغل كان متفهماً، لكنه لا يستطيع تحمل مخاطر توقف العمل. الدورات التدريبية قليلة، والتمويل المخصص لإقراض الشباب لبدء مشاريعهم لا يصل إلى أمثالي. أشعر أن سنوات اعتقالي سرقت ماضيّ، وغياب الدعم يسرق مستقبلي. أحياناً أقول لنفسي: لقد حرروا الأرض، لكنهم لم يحررونا نحن من آثار ما حدث".

بين الإدانة والواجب الإنساني

تؤكد منظمة العفو الدولية في تقريرها، "المسؤولية الأخلاقية والقانونية للمجتمع الدولي"، غير أنّ الإدانات والبيانات، رغم أهميتها، تبقى غير كافية، مع عدم تحويل هذه الإدانات إلى أفعال ملموسة كالتمويل العاجل والكافي وضخ موارد مالية مستدامة لدعم برامج الرعاية الصحية، الجسدية والنفسية المتخصصة، وإعادة التأهيل الاجتماعي والاقتصادي للناجين من التعذيب في سورية، عبر قنوات موثوقة ومنظمات قادرة على الوصول.

كما تؤكد على "دعم بناء القدرات المحلية وتعزيز قدرات المنظمات السورية المحلية العاملة في مجال دعم الناجين، وتوفير التدريب المتخصص للكوادر الطبية والنفسية والاجتماعية، إضافة للضغط من أجل العدالة الانتقالية، ومحاسبة مرتكبي جرائم التعذيب، والكشف عن مصير المختفين قسرياً، وهو أمر أساسي للشفاء النفسي الجماعي والفردي". وتشدد على ضرورة إدراج احتياجات الناجين في خطط الإعمار.

يقول الناشط الحقوقي أسعد حرب لـ"العربي الجديد": "لقد مرت ستة أشهر على التغيير في سورية، لكن بالنسبة لآلاف الناجين من معتقلات النظام السابق، فإن الزمن لا يزال واقفاً عند لحظة التعذيب. الإفراج كان فتحاً للأبواب الحديدية، لكنه لم يفتح أبواب الشفاء ولا الاندماج ولا العدالة. إنهم يحملون أوزاراً ثقيلة؛ جروحاً جسدية نازفة، وندوباً نفسية غائرة، وذاكرة مشحونة بأصوات الألم والموت، وإحساساً بالعزلة واليأس في مجتمع منهك هو الآخر". ويرى أنّ تحذير منظمة العفو الدولية "ليس تنبيهاً جديداً، بل هو صرخة استغاثة عاجلة من أجل عشرات الآلاف من البشر المحطمين الذين يخشون أن يكون مصيرهم النسيان بعد أن نَجَوا من الموت".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows