"حلاق بيكاسو".. سيكولوجيا المنفى وذاكرة الفن
Arab
1 day ago
share

عبر مسرحية "حلاق بيكاسو"، التي تُعرض حالياً على خشبة "المسرح الإسباني" في مدريد، وتتواصل حتى العشرين من يوليو/ تموز المقبل، يستحضر كل من الكاتب بورخا أورتيز دي غوندرا، والمخرج تشيكي كارابانتي، حكاية نادرة من دفاتر التاريخ الثقافي الأوروبي. إنّها قصة صداقة رسّام عبقري ومثقّف ملتزم، بابلو بيكاسو، مع الحلاق الجمهوري والمنفي، يوجينيو أرياس، الذي حمل المقص بيد، والبندقية في الأخرى.

تبدأ المسرحية بمشهد صامت وساخر: الحلاق المنفي يحاول يائساً التقاط موجات إذاعة برشلونة من جنوب فرنسا. مشهد يومي بقدر ما هو رمزي، يتحوّل إلى مدخل ساخر لموضوعات أكثر عمقاً: الانتماء، المنفى، والحنين للوطن.

بعدها سنتعرف على قصة الثنائي: التقى بيكاسو وأرياس في فالوريس، بلدة في الجنوب الفرنسي، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كان الفنان الإسباني قد انتقل للإقامة فيها بصحبة فرانسواز جيلوت، فيما كان أرياس، الحلاق المنفي من بلدة بويتراجو دي لوزويا، قد استقر هناك هارباً من نتائج الحرب الأهلية الإسبانية. 

في صالون الحلاقة البسيط، ستبدأ علاقة إنسانية نادرة، تجاوزت الاعتبارات الاجتماعية والفنية، لتتحول إلى صداقة دامت أكثر من ربع قرن، إذ لم يتقاضَ أرياس يوماً أجراً على قص شعر بيكاسو، بل تلقى بالمقابل عشرات الرسومات التي أصبحت لاحقاً جزءاً من متحف باسمه في بلدته الأصلية.

كوميديا تتقاطع فيها السياسة مع الحنين، والضحك مع الحزن

داخل صالون الحلاقة البسيط تجري أحداث المسرحية، إذ ينفتح الزمن على كل شيء: الحنين والهُوية والمنفى. يمارس أرياس دوره حافظاً لذاكرة الوطن الضائع، في الوقت الذي يعيش فيه بيكاسو آخر فصول حياته الفنية والعاطفية. يناقش الاثنان الفن والسياسة وأوهام الثورة، في مشاهد لا تخلو من الطرافة والوجع المشترك.

صالون الحلاقة البسيط لن يكون في المسرحية إلّا تجسيداً لإسبانيا الضائعة، المكان الذي يُعاد فيه بناء الوطن المفقود في جدالات عن مصارعة الثيران بين الحلاق والفنان، أو النقاشات حول الفن، أو حتى نقاشات حول ما إذا كانت هدية مناسبة لبيكاسو ستكون لوحة أم… معزة. إنها كوميديا بشرية تتقاطع فيها السياسة مع الحنين، والضحك مع الحزن، والنقد مع الحميمية.

رغم أن الشخصيتَين الحقيقيتَين تفصل بينهما أجيال، فإن المخرج اختار أن يُقدّمهما في المسرحية على أنهما من جيل واحد، وأنّهما منسجمان في العمر كما في الحوار، ما يخلق نوعاً من التوازي بين الواقع والمتخيّل، ويحرّر العمل من القيود البيوغرافية لصالح دراما حميمة، تعكس صراعاً نفسياً أكثر من سرد لسير ذاتية.

مقارنة بمسرح السيرة الذاتية، لا يحاول العرض تقديم بيكاسو الحقيقي كما هو، بل يقدّم مرآة للإنسان من خلال عيون صديقه البسيط. إنها مسرحية عن المودة، والحديث العفوي، عن الضحك في المطبخ، وعن الحياة التي تتسرب من بين ضجيج صالون حلاقة. 

لا تقدّم المسرحية حقيقة تاريخية بقدر ما تقدم وطناً صغيراً بين كرسي الحلاقة ولوحة الرسم. وطن لا يمكن العيش فيه إلّا بصحبة الآخر المختلف، الذي يشبهك في غربته أكثر من أي تشابه آخر. ضمن هذا السياق، ليس العرض تاريخياً أو سياسياً،  بالمعنى التقليدي، بل هو كوميديا درامية عن صداقتَين: الأولى بين رجلَين مختلفَين، والثانية بين الإنسان وموطنه المفقود.
 
إنها كوميديا لا تضحك فحسب، بل تحفّز الذاكرة، وتحرّك إحساساً دفيناً بالانتماء، خصوصاً في ظل نفي مزدوج: جسدي وثقافي. أرياس وبيكاسو، كما يقدّمها العرض، لا يعيش أحدهما دون الآخر، فكلٌ منهما يحمل ما تبقى للثاني من إسبانيا، البلد الذي تركه كلاهما خلفه لكن لا يمكن اقتلاعه من داخل أي منهما.

 

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows