
بعد مرور 12 يوماً على بدء الهجوم الإسرائيلي، والذي تم بالتنسيق الكامل مع الإدارة الأميركية، انتهت حرب إسرائيل على إيران بإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فجر أول من أمس الثلاثاء، التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين طهران وتل أبيب. جاء هذا الإعلان في أعقاب شنّ الطائرات الأميركية، بمشاركة طائرات سلاح الجو الإسرائيلي، ليلة الأحد الماضي، ضربات وُصفت بالمدمّرة على عدد من المنشآت النووية الإيرانية، كان أبرزها منشأة فوردو، جوهرة التاج في المشروع النووي الإيراني. وقد اعتُبر إلحاق ضرر بالغ بهذه المنشأة شرطاً أساسياً لوقف المشروع النووي الإيراني أو تعطيله لعدة سنوات.
كشفت الضربة المشتركة التي استهدفت منشأة فوردو عن مستوى عالٍ من التنسيق والتخطيط بين إسرائيل والولايات المتحدة في الحرب على إيران. وأظهرت حجم التمويه والتضليل المشترك الذي سبق الهجوم. كما بيّنت مدى اعتماد إسرائيل على الدعم الأميركي، وأنها، من دون هذه المساعدة، لا تمتلك القدرة الكافية على توجيه ضربات فعّالة ومستقلة تضمن إلحاق ضرر كبير بالمشروع النووي الإيراني. كذلك، عكست هذه العملية مستوى التوافق الشخصي والسياسي بين ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في ما يخص الملف النووي الإيراني. فعلى الرغم من التباين أحياناً في التكتيكات والأساليب، فإن الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل والولايات المتحدة تبدو متطابقة إلى حد بعيد. لم تكتفِ إسرائيل بتوجيه ضربات قاسية للمشروع النووي الإيراني، بل وسّعت نطاق عملياتها لتشمل القدرات الصاروخية الإيرانية والمنشآت العسكرية، لا سيما منظومات الدفاع الجوي. كما استهدفت علماء في المشروع النووي، ومواقع مدنية ومراكز للأمن الداخلي، في إشارة واضحة إلى نيتها مواصلة الحرب، وتصعيد الضغط بهدف تقويض تماسك النظام الإيراني وقدراته.
بعد الضربة التي وُجّهت إلى منشأة فوردو النووية، بدأ الحديث يتزايد حول ضرورة إنهاء حرب إسرائيل على إيران. فعلى الرغم من تواضع قدرة إيران على ضرب العمق الإسرائيلي، فإن الهجمات الإيرانية ألحقت أضراراً جسيمة بالبنى التحتية والممتلكات، وأدّت إلى مقتل 29 إسرائيلياً، إضافة إلى شلل شبه كامل في الاقتصاد وتعطيل الحياة اليومية. إطالة أمد حرب إسرائيل على إيران وتحويلها لحرب استنزاف لم تكن في مصلحة تل أبيب، خصوصاً أن الأهداف العسكرية المُعلنة تحققت إلى حد بعيد. في ظل هذه المعطيات، لم يكن من الصعب على الرئيس الأميركي التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، حتى دون مفاوضات مباشرة بين إيران وإسرائيل، إذ كانت كل من طهران وتل أبيب معنيتين بوقف إطلاق النار في هذه المرحلة.
وقف إطلاق النار رغبة متبادلة
منذ أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فقدت إيران العديد من روافع القوة التي عملت على بنائها على مدار عقود، بهدف خلق توازن قوى، أو بالأحرى توازن رعب، مع إسرائيل. وبسبب التفوّق الجوي والاستخباراتي الإسرائيلي، والدعم الأميركي، سعت طهران إلى تعويض هذا الضعف من خلال دعم منظمات عسكرية قريبة جغرافياً من إسرائيل، مثل حركة حماس وحزب الله اللبناني، وإلى حدٍّ ما النظام السوري السابق، لتكون بمثابة أدوات ردع في مواجهة أي هجوم إسرائيلي على منشآتها النووية، وللرد وقت الحاجة على أي عدوان محتمل.
تُدرك إسرائيل الثمن الباهظ الذي قد تدفعه في حال طال أمد الحرب على إيران
تراجعت هذه الموارد بشكل كبير خلال العامين الماضيين، ولم تعد فعّالة كما كانت، نتيجة حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، والحرب على لبنان وسقوط نظام بشار الأسد في سورية. بهذا المعنى، خاضت إسرائيل سلسلة من الحروب المتتابعة ضد جميع الجبهات التي اعتبرتها تهديداً، بعدما نجحت في منع فتح هذه الجبهات بالتوازي، وهو السيناريو الذي اعتُبر كابوساً إسرائيلياً في الأيام الأولى التي تلت السابع من أكتوبر 2023. مهّد ضرب القدرات الاستراتيجية لطهران في المنطقة الطريق أمام إسرائيل لبدء حربها المباشرة على إيران، وشجّع الإدارة الأميركية على دعمها. في ظل هذه المعطيات، بدا قبول إيران بوقف إطلاق النار خياراً منطقياً هدفه تقليل الخسائر، وحماية مقدرات الدولة الإيرانية، سواء العسكرية أو الاقتصادية أو المدنية.
في المقابل، تُدرك إسرائيل أن استمرار الحرب لا يخدم مصالحها، ولن يفضي إلى نتائج تتجاوز ما تم تحقيقه حتى الآن، ما لم يكن إسقاط النظام الإيراني هدفاً واقعياً وممكن تنفيذه. وتُدرك الثمن الباهظ الذي قد تدفعه في حال طال أمد الحرب على إيران وتحولت الى حرب استنزاف واستمر استهداف العمق الإسرائيلي. كما أنها تدرك التداعيات المحتملة على الاستقرار الإقليمي وعلى الاقتصاد العالمي، خصوصاً إذا تحوّلت الحرب، من وجهة نظر طهران، إلى معركة وجودية تهدد بقاء النظام نفسه.
ستحاول إسرائيل نسخ النموذج السوري واللبناني في إيران أيضاً
نقل نموذج بيروت إلى طهران
وقف إطلاق النار دون اتفاق واضح ودون شروط، يمكن أن يوفر لإسرائيل حرية العمل العسكري ضد إيران مستقبلاً. فبعد أن كسرت تل أبيب المانع النفسي في توجيه ضربات قاسية للعمق الإيراني، وجربت قدراتها في ذلك، وتبين أن الاثمان العسكرية محدودة، ستحاول إسرائيل نسخ النموذج السوري واللبناني في إيران أيضاً. بمعنى أن حرب إسرائيل على إيران ستتواصل، إذ ستوجه ضربات في العمق الإيراني، وستعمل على منع إيران من إعادة بناء المنشآت النووية وترميم ما تعرض للضرر نتيجة العدوان الإسرائيلي. وتحت حجة منع خلق أي تهديد عسكري مستقبلي ستحاول إسرائيل منع إعادة بناء القدرات الصاروخية لإيران، وربما قدرات عسكرية تقليدية أخرى. فالمجتمع الإسرائيلي سيتقبّل ذلك، خصوصاً إذا كان دون أثمان أو خسائر، كما أن الإدارة الأميركية ستدعم هذه المساعي ولو بصمت، والعالم سيعتاد على الاعتداءات الإسرائيلية في إيران.
ستسعى إسرائيل، عبر التنسيق مع الولايات المتحدة، إلى فرض اتفاق نووي جديد على إيران
كما ستسعى إسرائيل، عبر التنسيق مع الولايات المتحدة، إلى فرض اتفاق نووي جديد على إيران، يضمن منع أي محاولة مستقبلية لإعادة ترميم برنامجها النووي، ويُحرِّم تخصيب اليورانيوم بالكامل، فضلاً عن الحد من قدراتها العلمية والتقنية في هذا المجال. فلا تقتصر رغبة إسرائيل على احتكار امتلاك السلاح النووي في الشرق الأوسط، بل تتجاوز ذلك إلى السعي لاحتكار المعرفة العلمية والبنية الأكاديمية المتعلقة بالتكنولوجيا النووية.
حرب إسرائيل على إيران مخرج لإنهاء حرب غزة؟
تُعدّ الحرب القصيرة والناجحة – من وجهة النظر الإسرائيلية – ذات تداعيات مباشرة على الوضع في قطاع غزة، إذ بدأت تتعالى أصوات في إسرائيل تدعو إلى استغلال الظرف الإقليمي الجديد، والتراجع في قدرات إيران، من أجل فرض اتفاق لتبادل الأسرى والمحتجزين مع حركة حماس. تقدّر إسرائيل أن الحركة باتت الآن دون غطاء إقليمي فعّال، وأن قدراتها السياسية والعسكرية تراجعت بشكل كبير، بل إن إمكانية إعادة ترميم قوتها في المدى المنظور قد تعرّضت لضربة قاسية. في ظل هذه المستجدات، ترى تل أبيب في هذا الواقع فرصة سانحة لفرض اتفاق مع "حماس"، وفق شروطها ومطالبها.
حتى وإن كان التوصل إلى اتفاق مع حركة حماس لا يعني "انتصاراً مطلقاً" من وجهة النظر الإسرائيلية، فإن إسرائيل باتت قادرة الآن على تحمّل ذلك، إذ ترى أن الفائدة السياسية والاستراتيجية من التوصل إلى اتفاق ووقف حرب الإبادة في هذه المرحلة، تفوق كلفة استمرارها. فقد كانت تل أبيب، حتى قبل أسابيع قليلة، تواجه احتمال فرض عقوبات أوروبية – بدعم من بعض أكثر الدول المؤيدة لها داخل الاتحاد الأوروبي – في ظل تراجع حاد في مكانتها الدولية، وهو ما بدأ يُهدّد أيضاً الوضع الاقتصادي. إلى جانب ذلك، تزايدت حدة الاحتجاجات الداخلية والمطالب بالتوصل إلى اتفاق بشأن الأسرى والمحتجزين، في ظل الإخفاق المستمر في حسم هذا الملف خلال الأشهر الأخيرة. من غير المستبعد إذاً أن يشهد هذا الملف تقدماً في الأيام القريبة، رغم تهديدات وزراء اليمين المتطرف، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش والأمن القومي إيتمار بن غفير، الذين يلوّحون بتفكيك الحكومة إذا تم التوصل إلى اتفاق يُفضي إلى وقف الحرب على غزة.
نتنياهو لا يخشى تقديم موعد الانتخابات
كان واضحاً منذ بدء حرب إسرائيل على إيران أن الحسابات السياسية الداخلية شكّلت عنصراً مركزياً في قرار نتنياهو بشأن خوض الحرب وتوقيتها. كان واضحاً أن رئيس حكومة الاحتلال يدخل في مغامرة سياسية، مدفوعاً بالأمل في أن يؤدي نجاح الحرب، وتوجيه ضربات قاسية للمشروع النووي الإيراني، إلى تغيير جذري في مكانته السياسية. فبعد الوضع الناشئ وفي ظل نشوة "الانتصار" وأجواء الاحتفال السائدة في أوساط المجتمع الإسرائيلي، لا يُستبعَد أن يُبادر نتنياهو بنفسه إلى تقديم موعد الانتخابات البرلمانية إلى نهاية العام الحالي (موعدها الأساسي بحلول 27 أكتوبر 2026)، مستغلًا نتائج الحرب لتعزيز موقعه السياسي، وترميم مكانة حزب الليكود الذي يقوده. ويفضل نتنياهو أن يكون ذلك بعد إغلاق ملف الأسرى والمحتجزين في غزة. مع ذلك، من السابق لأوانه استخلاص نتائج قاطعة بشأن مآلات حرب إسرائيل على إيران وتبعاتها الاستراتيجية. فالتاريخ الإسرائيلي والعربي مليء بالأمثلة التي تُحذّر من الإفراط في الثقة؛ إذ إن الهزيمة العربية في حرب يونيو/ حزيران 1967، والتي اعتُبرت في حينها "نصراً ساحقاً" لإسرائيل، كانت مقدمة لحرب الاستنزاف باهظة الثمن، ومهدت الطريق لمفاجأة حرب أكتوبر 1973.

Related News

