
سنّ التشاريع التقدّمية وتطوير المرافق الإدارية العمومية من الركائز الأساسية لإقامة الدولة المدنية الحديثة. فالتشريع باعتباره وضع قوانين أو لوائح أو قرارات تنظم حياة الأفراد والجماعات، وتحدّد حقوقهم وواجباتهم، وترتّب علاقة الحاكم والمحكوم، فعل تنظيمي يصدر عن جهة مختصة في الدولة، أكانت سلطة تشريعية أم سلطة تنفيذية. وهو قوام سيرورة الاجتماع المدني وانتظام الناس وفق القانون، والقصد منه ضمان الاستقرار وتحقيق المصلحة العامّة. أمّا الأجهزة الإدارية العمومية، فأساس التنمية الشاملة، وعليها المعوّل في تنفيذ السياسات العامّة للدولة، وتحويل البرامج الإصلاحية إلى واقع يحياه الناس، وتيسير تمتّع المواطنين بخدمات القُرْب وغيرها، مع تأمين نفاذهم إلى المعلومة في كنف الشفافية. ويفترض في الأداءين، التشريعي والإداري، على السواء، التجديد والتطوير والدينامية، بهدف مواكبة حاجيات الناس وتحوّلات العصر. ومع أنّ تونس ذات تاريخ طويل في المجال التشريعي والتسيير الإداري، ظلّت عقوداً بعد الاستقلال تعاني من وطأة قوانين قديمة، جامدة، لا تنسجم مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان. كذلك ظلّ حبيس إدارة بيروقراطية، أثّرت سلباً بأداء المؤسسات العمومية وبخدمة مصالح المواطنين. وفي هذا السياق، دعا رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، إلى ضرورة تدشين ثورة تشريعية، متبوعة بثورة إدارية لتحقيق شوق التونسيين إلى قوانين تقدّمية وإدارة عمومية تفاعلية، ناجعة. والواقع أنّ هذا الوعد جميل، ويتطلّع إلى تحقيقه معظم الناس. لكنّ تحويله من حلم إلى واقع يبدو صعباً بحسب مراقبين، وذلك بسبب معطيات شتّى.
وعد الرئيس بتدشين ثورة تشريعية/ إدارية رائع، لكنّ تحقيق ذلك الوعد لا ينهض به الفرد، بل يقتضي تضافر كلّ مكوّنات المجتمع المدني
أسهمت مرحلة الانتقال الديمقراطي (2011 -2021) بدرجة معتبرة في معالجة جانب من حالة الاهتراء التشريعي في تونس، ومرّرت عدّة قوانين ومبادرات تشريعية رائدة، منها قانون الانتخابات الذي نص على المساواة بين الجنسين في القوائم الحزبية، وتوفير فرص تمثيلية للأحزاب الصغيرة في السباق الانتخابي والمجلس النيابي، وبلورة دستور 2014 الذي قطع مع دولة الحزب الواحد، وكرّس سيادة الشعب، والفصل بين السلطات، وضمن الحريات الفردية والجماعية، واستقلالية القضاء، وقانون الجمعيات الذي فتح الباب واسعاً لحرية تكوين الجمعيات والانخراط فيها، وعزّز دور المجتمع المدني في إدارة الشأن العام ومراقبة النظام الحاكم، والتأثير بصنّاع القرار. كذلك أُصدِر المرسوم 115 بخصوص ضمان حرية الصحافة والطباعة والنشر الذي حرّر الأقلام والحناجر، وحمى الصحافيين من التعرّض للملاحقة القضائية بسبب مزاولتهم عملهم. وسُنّ قانون الحق في النفاذ إلى المعلومة، وكذا قانون منع الاتجار بالأشخاص ومكافحة التحرّش والعنصرية، وغير ذلك من تشريعات تحديثية مهمّة. لكنّ ذلك لا يمنع من أنّ الفاعلين السياسيين في تلك الفترة لم يلتفتوا إلى تغيير قوانين أخرى، تجاوزها العصر، وما انفكّت تشدّ التونسيين إلى الوراء، مثل بعض محامل المجلّة الجزائية، ومجلّة الشغل والاستثمار، وقانون الطوارئ، وتشريعات شتّى سالبة للحرّية.
أسهمت مرحلة الانتقال الديمقراطي (2011 -2021) بدرجة معتبرة في معالجة جانب من حالة الاهتراء التشريعي في تونس، ومرّرت عدّة قوانين ومبادرات تشريعية رائدة
أمّا بعد حركة 25 يوليو (2021)، وإمساك قيس سعيّد بزمام منظومة الحكم، ووضعه دستوراً على طريقته، وانتقاله بالبلاد من نظام حكم برلماني معدّل إلى نظام رئاسي مطلق، فقد جرت مركزة سلطة التشريع بيد رئيس الجمهورية. ذلك أنّ البرلمان الجديد ليس سلطة، بل مجرّد وظيفة بحسب دستور 2022، وصلاحياته محدودة. ولرئيس الجمهورية أولوية تقديم تشاريع، وإصدار مراسيم، وردّ قوانين صدّق عليها المجلس النيابي. وبذلك ينافس الرئيس البرلمان على اختصاصاته التشريعية، ويتحكّم في مآلها. ومعلوم أنّ ذلك يجعل الفرصة سانحة نظرياً لسعيّد ليقوم بثورة تشريعية. وقد حظي عملياً جلّ مشاريع القوانين التي وردت بمبادرة من رئاسة الجمهورية بتصديق مجلس نواب الشعب عليها. وأقدم سعيّد أخيراً على تمرير مشروع قانون تنظيم عقود الشغل ومنع مناولة اليد العاملة وتجريمها إلى البرلمان، وحظي القانون المذكور بثقة أغلبية النواب، حيث صوّت لفائدته 121 نائباً. ويعتبر القانون الجديد ثورياً من جهة اعتباره العقد غير محدد المدّة الصيغة الطبيعية والأصلية للتشغيل. أما العقود محدّدة المدّة، فهي استثناء، لا تُعتمد إلا في حالات خاصة ومبرّرة. وحَدّد القانون العمل التجريبي بستة أشهر، قابلة للتجديد مرّة واحدة. كذلك منع تشغيل العمّال عبر أطراف ثالثة في المهام الأساسية والدائمة داخل مؤسّسات، عمومية أو خاصة. وسمح ببعض تدخلات فنية أو ظرفية، بشرط ألا تتحوّل إلى وسيلة للالتفاف على الحقوق القانونية للأجراء. واشتمل القانون على تدابير صارمة، هدفها فرض احترام القانون، منها خطايا مالية واعتبار العلاقة الشغلية مباشرة بين العامل والمؤسّسة المستفيدة من الخدمة، وكذا حرمان المؤسّسات المخالفة الامتيازات أو التعاقد مع الدولة. ويُسهم هذا القانون نسبياً في مكافحة أشكال التشغيل الهشّ، ويُخرج طيفاً معتبراً من العمّال من حالة اللايقين. ويظهر سعيّد في صورة نصير للعمّال وللدولة الاجتماعية على نحوٍ يزيد من شعبيته. ومع أنّ هذه البادرة التشريعية نوعية، يذهب مراقبون إلى أنّ حركة التغيير التشريعي لن تكون عميقة وشاملة قطاعاتٍ شتّى، وأنّ أنصار الرئيس سيستثمرون شعار الثورة التشريعية لأغراض شعبوية/ دعائية.
ويستدلّون على ذلك بأنّ المنظومة الحاكمة لا تُبدي حماسة لمراجعة نصوص المجلّة الجزائية التي يعود تاريخ وضعها إلى سنة 1913، وتضمّنت عدّة قوانين مهجورة تجاوزها العصر، وأخرى سالبة للحريات، ولا تنسجم مع محامل المواثيق الحقوقية الدولية التي صدّقت عليها تونس، ولا مع مضامين دستور 2022 نفسه. كذلك لم تبْدِ استعداداً لتغيير محامل المرسوم عدد 50 لسنة 1978 الذي ينصّ الفصل 8 منه مثلاً على أنه "يمكن للسلطات أن تأمر بتفتيش المحلات بالنهار وبالليل في المناطق الخاضعة لحالة الطوارئ، وأن تتخذ فيها كل الإجراءات لضمان مراقبة الصحافة وكل أنواع المنشورات وكذلك البث الإذاعي والعروض السينمائية والمسرحية". يُضاف إلى ذلك أنّ مبادرات نيابية واعدة لم تجد طريقها إلى الجلسة العامّة في البرلمان، وعُطِّل التصديق عليها. فلم يُعدَّل بعد المرسوم الرئاسي عدد 54 الذي فرض قيوداً صارمةً على حرية التعبير، وأفضى اعتماده إلى إيداع كثيرين في أقبية السجون. كذلك لم يُمرَّر قانون لتجريم التطبيع مع إسرائيل، رغم وجود كتلة برلمانية وشعبية واسعة داعمة له. وفي السياق، لم تُحدَث بعد المحكمة الدستورية التي عليها المعوّل في فضّ مسائل الخلاف على الصلاحيات، والنظر في مدى دستورية القوانين وضمان شفافية المسار الانتخابي، وتأمين التوازن بين السلطات، وفرض رقابة على أدائها. وبناءً عليه، يذهب دارسون إلى أنّ الثورة التشريعية المعلنة ستبقى انتقائية، مبتورة ما لم تكن شاملة، عميقة، آخذة بالاعتبار تعزيز المكاسب الحقوقية للمواطنين.
جرت مركزة سلطة التشريع بيد رئيس الجمهورية. ذلك أنّ البرلمان الجديد ليس سلطة، بل مجرّد وظيفة بحسب دستور 2022 وصلاحياته محدودة
على صعيد آخر، دعا سعيّد مراراً إلى تحقيق ثورة إدارية لإحداث نقلة نوعية واستثنائية في مستوى أداء المرافق العمومية، مشيراً إلى أنّ "الإدارة بالنسبة إلى المواطن هي الدولة، ولا بد من توفير الخدمات للمواطنين في أسرع الأوقات"، وأنّ المطلوب تذليل العقبات، لا التنكيل بالمتعاملين مع الإدارة. واستحضر الرئيس، في هذا الخصوص، معاناة كثيرين من التسويف والمماطلة والتعقيدات الإدارية وتطلّع التونسيين إلى إدارة تفاعلية ناجعة. وهو مَطمَح بعيد التحقّق بحسب ملاحظين. ذلك أن جُلّ المؤسسات الخدمية العمومية ما زالت رهينة البيروقراطية، وحبيسة الهرمية الجامدة، والتشبث الحرفي بالنصوص، وتتراخى في تأمين الخدمة المطلوبة، وتفرض على المواطن اشتراطات مكرّرة وغير ضرورية ومتطلبات تعجيزية أحياناً. ولا يخضع الأداء الإداري غالباً للمحاسبة والمراقبة البعدية من جهات محايدة أو خارج المؤسسة العمومية، حتّى يدّعي بعض المسؤولين أنّهم فوق المساءلة. ويتعلّلون بأنّهم ينتمون إلى منشأة عمومية، ذات نظام داخلي مستقل (شركة الكهرباء مثالاً)، لا حاكم عليها، ولا ناقض لقراراتها. وفي حال تعرُّض مواطن لمظلمة، لا يجد له في الغالب نصيراً، فأحكام المحكمة الإدارية غير ملزمة، وصلاحيات الموفق الإداري محدودة وغير ملزمة. وإن عبّر المواطن عن امتعاضه من الأداء الإداري، يُقال له: "اذهب... تشكّى إلى رئيس الجمهورية." وإن عبّر عن غضبه، قد تُوجّه إليه "تهمة هضم جانب موظّف في أثناء عمله"، وهي تُهمة فضفاضة، قامعة، قديمة، تجعل من الموظّف العمومي الخصم والحكَم في آن واحد. وقد عانى كاتب هذه السطور ويلات البيروقراطية. فبعد زهاء عام ونصف عام من التسويف، لم يُزوَّد منزلي بعدُ بعدّاد كهرباء، بسبب تعقيدات إدارية شتّى. يُضاف إلى ذلك أنّ عديد المرافق العمومية تفتقر إلى الرقمنة، ولا يتغيّر المديرون العامون، ورؤساء الأقاليم، والمشرفون على مكاتب الدراسات في مُدد قصيرة ودورياً، وهو ما يرسخ البيروقراطية، ويؤجّل تحقيق ثورة إدارية شاملة.
ختاماً، صحيحٌ أنّ وعد الرئيس بتدشين ثورة تشريعية/ إدارية رائع، لكنّ تحقيق ذلك الوعد لا ينهض به الفرد، بل يقتضي تضافر كلّ مكوّنات المجتمع المدني، وإعادة بناء العقول على ثقافة الحق والواجب، واعتبار المسؤولية تكليفاً، لا تشريفاً.

Related News
