
لم تعد الدراجة النارية في لبنان رمزاً للجرأة فقط، بل أصبحت وسيلة نجاة حقيقية في بلد تتلاشى فيه إمكانيات وسائل التنقل. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وارتفاع أسعار المحروقات وقطع الغيار وصيانة السيارات، ازداد لجوء اللبنانيين، واللبنانيات على وجه الخصوص، إلى الدراجات النارية بديلاً أقل كلفة وأسرع للتنقل في المدن المكتظة.
تشير "الشركة الدولية للمعلومات" (شركة دراسات وأبحاث مستقلة) إلى أن عدد الدراجات النارية المستوردة قفز من 29102 دراجة في عام 2021 إلى 47077 دراجة حتى نهاية يوليو/تموز 2022، ليبلغ العدد الإجمالي 177388 دراجة بين الأعوام 2017 و2022. ويُقدّر عدد الدراجات النارية المسجلة بنحو 289 ألفاً، مع تقديرات بوجود عدد مماثل غير مسجل. خلف هذه الأرقام، تظهر ظاهرة اجتماعية: النساء على الدراجات.
في عام 1999، حين لم يكن من الشائع أن ترى امرأة تقود دراجة نارية في شوارع بيروت أو ضواحيها، قرّرت هيام بكر أن تكسر "التابو" بصمت، من دون ضجيج شعارات، بل بقيادة فعلية على الأرض. لم يكن قرارها يومها نابعاً من رغبة في التميز أو حتى المغامرة، بل كان نتاج حاجة ملحّة لحماية نفسها. تقول: "كنت أتنقل كثيراً في التكسي، وكنت أتعرّض للتحرش دائماً، فقررتُ أن أتعلم قيادة الدراجة النارية".
في بيئة محافظة، وفي وقت لم تكن فيه مفاهيم مثل "التحرش الجنسي" مطروحة بوضوح في النقاش العام، اتّخذت هيام قراراً غير اعتيادي. كانت شابة في الثلاثينات من عمرها، تعيش في منطقة شعبية، ما جعل ركوبها دراجة نارية "حدثاً شاذّاً"، كما تصفه. تتذكر النظرات والهمسات والأسئلة المباشرة من المارّة: "الناس كانت توقفني، وتسألني: ألا تخافين؟ كانوا ينظرون إليّ وكأنّني مخلوق غريب".
لم يكن التحرش وحده ما دفع هيام إلى ركوب الدراجة، بل أيضاً شغفها وحبّها للدراجة النارية، لكن الطريق لم يكن معبّداً. "واجهتُ رفضاً قويّاً، لكنّني اشتريتُ الدراجة ووضعتهم أمام الأمر الواقع"، تقول بإصرار، مشيرة إلى تحدّيها عائلتها ومحيطها الاجتماعي في حيّها. في ظل عدم قدرتها المادية على تسجيل الدراجة قانونياً، تقود اليوم دراجتها وتضطر أحياناً للهروب من الحواجز الأمنية. ليست مجرّد سائقة دراجة، بل عاملة توصيل. وتقول هيام: "أعمل في مجال الدليفيري، عندما أنهي عملي الأساسي. واليوم، بعد أكثر من عشرين عاماً، نلاحظ تحوّلاً في المجتمع، بعد الأزمة الاقتصادية في البلاد وجائحة "كوفيد - 19"، حيث نرى الكثير من النساء يقدن دراجات نارية، ونلحظ أن المضايقات قد خفّت. المجتمع تغيّر، لم يعد يعتبر الشابة التي تركب أو تقود دراجة نارية، شابة سيئة".
رنا كرزي، سائقة ومدرّبة، تقول إن أعداد الراغبين والراغبات في تعلم قيادة الدراجات النارية "ارتفعت بشكل ملحوظ منذ عام 2020، والمفاجئ أن النسبة الكبرى من النساء". تضيف: "بدأ بعضهنّ هوايةً، لكن الغالبية تعتبر الدراجة النارية وسيلة تنقل أوفر وأسرع".
هذه القفزة النسائية على الدراجات النارية لم تأتِ من فراغ. إنها وليدة أزمة اقتصادية حادّة التقت مع تحولات اجتماعية بطيئة، ولكنها جذرية. في بلد لم يعد يحتمل كلفة التنقل بالسيارة، ولا رفاهية الانتظار في زحمة السير، ظهرت الدراجة النارية خياراً عملياً، لكن النساء حوّلن هذا الخيار إلى مساحة للتمكين الذاتي والمواجهة اليومية.
سهى حفنة، واحدة من هؤلاء النساء، تقود دراجتها منذ نحو تسع سنوات. لم يكن قرارها نابعاً من رومانسية أو ترف، بل باعت سيارتها لأن كلفة التنقل بها صارت كبيرة، وتقول ببساطة تفضح قسوة الواقع: "اشتريت دراجة نارية وحصلت على دفتر قيادة"، لكن البيروقراطية لم تكن أقل ذكورية من الشارع، إذ تشير سهى إلى أن الموظف اعتقد أنها مخطئة، عندما ذهبت للحصول على دفتر قيادة للدراجة النارية. ويختزل استغراب المؤسسة الرسمية من امرأة تتخطى الصور النمطية، ذهنية بعض أفراد المجتمع اللبناني تجاه مجالات عمل ما زالت تُحتكر "ذكوريّاً".
تعتبر سهى نفسها "90% قانونية"، تحمل دفتر سوق، وبوليصة تأمين، وإطفائية، وتلتزم بإشارات السير، لكنها تواجه تحرشات لفظية بمجرد وقوفها عند إشارة المرور. المفارقة أن احترامها القانون هو ما يثير استغراب بعضهم، لا خرقه. تقول: "لا أتجاوز إشارة حمراء، لكن كثيرين يطلقون أبواق السيارات مستغربين التزامي بالإشارة". كأن القيادة الرصينة لم تعد مفهومة في ثقافة الفوضى".
مشكلة سهى ليست في التحرشات اللفظية فحسب، بل في البنية التحتية التي لا تراعي وجود دراجات نارية أصلاً. "تقلقنا الحُفر والطرقات السيئة، وقلة الإضاءة"، وتتحدث عن "رعب القيادة الليلية في مدينة يغيب عنها الحد الأدنى من الأمان. في غياب الدولة، تصبح كل حفرة تهديداً، وكل منعطف اختباراً للنجاة".
ورغم كل هذا، تصرّ سهى على التمسك بدراجتها، لا بل تعشقها. وتقول بابتسامة: "أذهب إلى العمل، أشتري أغراضي، أقوم بكل مهامي بواسطتها، لم أعد أحتمل زحمة السير، تنقذني دراجتي حيث أصل بوقت أسرع، وتجعلني أعيش شعوراً رائعاً، وكأنّني أطير".
وجيهة شهاب (37 عاماً) قبل عشر سنوات، دفعتها الحاجة لسرعة التنقل في بيروت إلى اتّخاذ القرار، "كنتُ بحاجة للتحرك بشكل أسرع"، تقول ببساطة، وكأنها تلخّص كل ضيق المدينة في جملة واحدة. لم تكن غريبة عن العجلتين: كانت تقود دراجة هوائية، فكان الانتقال إلى الدراجة النارية طبيعيّاً، على الأقل تقنيّاً.
التحدي الأكبر، كما تصفه، لم يكن في الدراجة نفسها، بل في "القيادة بين السيارات". وجيهة، مثل كثيرات، اكتشفت أن المسافة بين الرغبة في التحرر، والقدرة على المناورة وسط شوارع بيروت الضيقة، شاقة ومليئة بـ"التلطيشات (التحرش اللفظي)". ومع ذلك، لا تشكو كثيراً. "الناس يرغبون برؤية شابّة تقود دراجة نارية، والنساء يفرحن"، تقول وجيهة، وكأنها تُذكر بأن ما تفعله يترك أثره، وأن كل جولة على الدراجة هي أيضاً فعل تحفيزي للآخرين.
لكن وجيهة ليست من هواة المبالغة، بل تتحدث بمنطقية، وترى أن "تجربة الدراجة النارية ليست لجميع النساء، إذ بينهنّ من هنّ غير مستعدات لذلك. ليس من باب النخبوية، بل من باب الواقعية الصلبة". وتضيف: "أنا لستُ قانونية 100%، لكنّني أحمل دفتر قيادة وغيره من الأوراق القانونية. لكن مع بداية مسيرتي في قيادة الدراجة النارية كنتُ ألتزم بوضع الخوذة، بينما أمشي اليوم عكس السير ولا أضعها". تعترف من دون تبرير، بأن القانون وحده لا يكفي، إن لم تكن البنية التحتية مهيّأة، وتقول: "الدولة لم توفر بنية تحتية آمنة، وهنا جوهر الأزمة، إذ كيف لدولة أن تحاسب المواطن وهي لا تحميه".
وجيهة ليست فقط سائقة، بل أصبحت مرشدة لغيرها من النساء. "أشجّع الشابّات، وأساعدهنّ على تعلم القيادة"، تقول بثقة امرأة أدركت ضرورة نقل التجربة وأيقنت أن كسر الصور النمطية لا يتم بشكل فردي، بل عبر شبكة دعم تمتد من عجلة إلى أخرى. هي ترى في الدراجة فرصة "أسرع، أوفر، وأجمل"، لكنها تحذر من الاندفاع الأعمى، "الخطر عالٍ"، تكرّر أكثر من مرة، وكأنها تزن شغفها بالمسؤولية.
في حديث وجيهة، يتجلّى التناقض اللبناني بوضوح؛ نساء يتقدّمن إلى الشارع، يقُدن في قلب الأزمة، يواجهن الصور النمطية، وفي الوقت نفسه يصطدمن بغياب الدولة، وتوحّش الطرقات، وفوضى المواصلات. لكن رغم هذا كله، لا تتراجع وجيهة ولا أمثالها. هنّ، بعجلتين، وبخوذة تُلبَس أحياناً وتُرفَع أحياناً أخرى، يسِرن في مواجهة ثقافة كاملة، يحفرن مسارهنّ بين السيارات، وينتزعْن الحق في أن يكنّ مرئيات، سريعات، يتمتّعن بكامل حقوقهنّ وحريّتهنّ.
"ركبتها رغم أنف الجميع"، تقولها هيام، وتختصر بذلك واقعاً لبنانيّاً تتحول فيه الدراجة النارية لتصبح أكثر من مجرد وسيلة، بل محاولة إضافية على طريق تحرّر النساء من المفاهيم والقيود الذكورية.

Related News

