
تكافح زوجات شهداء غزة من أجل إطعام أطفالهن والبقاء على قيد الحياة، وسط ظروف معيشية مزرية وأعباء مضاعفة ونزوح متكرر، يترافق مع حصار إسرائيلي محكم، وانعدام أي كفالات أو مساعدات خيرية.
داخل الخيام وبين الجدران المهدمة في قطاع غزة هناك أوجاع لا يُسمع أنينها، وتتضاعف تلك الأوجاع أكثر لدى نساء فقدن أزواجهنّ وتحمّلن كل المشقة والتعب بعد الرحيل. هنّ زوجات الشهداء، فقد ترك لهنّ الغياب فجوةً لا يسدّها الزمان، ومآسٍ تزداد مع كل موجة نزوح، لتصبح كل واحدة منهنّ شاهدة على التضحية رغم الآلام التي عاشتها.
وعلى امتداد أشهر حرب الإبادة وقسوة الظروف التي فرضتها على كل شرائح المجتمع في قطاع غزة، تزداد المعاناة أكثر عند الحديث عن زوجات الشهداء اللواتي فقدن "السند والمُعيل" فأصبحت كل واحدة منهنّ تقوم بدور "الأم والأب" معاً، في سبيل تربية الأطفال وتوفير لقمة حياة كريمة، وسط واقعٍ بات الحصول فيه على لقمة خبز أشبه بأمنية صعبة المنال.
وخلّفت الحرب الممتدة منذ أكثر من 19 شهراً، مأساة حقيقية لدى زوجات الشهداء، حيث أصبحت الأعباء المُلقاة على عاتقهنّ مضاعفةً، خصوصاً في ظل تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية وعدم توفر الدعم الكافي لهنّ، يُضاف إلى ذلك موجات النزوح القسري مع كل عملية عسكرية ينوي تنفيذها جيش الاحتلال، وكان آخرها الأسبوع الماضي حينما نزح سكان شمال قطاع غزة إلى مدينة غزة وغربها تحت نيران القصف والدمار.
بين ليلة وضحاها، انقلبت حياة الفلسطينية نداء النمر حينما فقدت زوجها سائد أبو العطا (39 سنة)، الذي سقط شهيداً في شهر مايو/أيار 2024، أثناء توجهه لجلب بعض مستلزمات العائلة من منزله الواقع في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، كونه كان نازحاً في تلك الفترة، ليترك خلفه أربعة أطفال، ولدان وابنتان، أحدهم رضيع لم يتجاوز عمره السنة.
أصبحت نداء تحمل كل المهام التي كان من المفترض أن يتقاسمها معها زوجها، وتقول: "صرتُ مسؤولة عن كل شيء، أذهبُ للسوق من أجل الحصول على الطعام، وأضطرّ في كثير من الأوقات للوقوف في طابور تكيّة الطعام، بسبب قلّة الأكل المتوفر في القطاع، وأنتظر في طابور مياه الشرب، وأتولى مسؤولية الذهاب لعلاج الأطفال عند مرضهم، وحتى تأمين الحليب والحفاضات لطفلي، وكل هذه أعباء إضافية".
وتضيف لـ"العربي الجديد"، بصوت يمتزج بالألم والوجع: "نحن زوجات الشهداء نشعر بالتهميش رغم حجم المعاناة والمأساة الكبيرة التي يصعب وصفها بالكلام، خصوصاً في الوقت الحالي، ففي بعض الأحيان لا أستطيع توفير رغيف الخبز بسبب تردّي الأوضاع المعيشية، يُضاف إلى ذلك عدم وجود كفالات أو مساعدات من أي مؤسسة خيرية".
وما يزيد التعب لدى نداء، هو كثرة النزوح الذي عاشته برفقة عائلتها مع كل عملية عسكرية إسرائيلية، خصوصاً أنها تسكن في منطقة حدودية. وتحكي عن معاناتها مع مشكلة النزوح منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وكانت آخرها عقب استئناف الحرب في مارس/آذار الماضي، وتقول: "اضطررتُ لتكبّد أعباء النزوح بمفردي، حملتُ ابني وأغراضي، وكان المشهد صعباً وقاسياً جداً، كوني لوحدي".
في حكايةٍ أخرى تقصّها منال بعلوشة، زوجة الشهيد عاطف الحصري الذي استشهد في 18 مارس 2024، بعد استهداف الاحتلال للمنزل الذي كانوا قد نزحوا إليه وسط مدينة غزة، تقول: "كنتُ متوجهة لإحضار الطحين من مدرسة عبد الله الدحيان في شارع الجلاء وسط مدينة غزة، وحينما عُدت وجدت المنزل عبارة عن أكوام حجارة، وارتقى زوجي وابني مصعب وبناتي الثلاث".
لم يتبقَ من عائلة منال سوى اثنين من أبنائها، محمد ومالك الذي أُصيب في القصف. وتضيف لـ"العربي الجديد": "غياب الزوج أمر ثقيل جداً ويُضاعف المهام الملقاة على عاتقي، خصوصاً في ظل قسوة الظروف التي نعيشها في الوقت الراهن، سواء في توفير الطعام والمياه أو في كثرة النزوح بين الفينة والأخرى". وتروي: "كنا ثمانية أفراد لكننا صرنا ثلاثة، من دون أي منزل أو أي دخل. كل المهام على عاتقي، حتى العلاج والتوجه للسوق وغيرها من المهام التي لم أكن أقوم بها عندما كان زوجي على قيد الحياة. المعاناة كبيرة جداً ولا يوجد كلام يصفها، وليس بوسعنا أن نأكل سوى العدس أو المعكرونة عند وجبة الغداء".
فجأة، ومن دون سابق إنذار، انقلبت حياة آية أبو عيطة حين استشهد زوجها عبد العزيز أبو عيطة في قصف مفاجئ لعمارة سكنية مقابلة لبيته في منطقة تل الزعتر شمال القطاع، فطاول القصف سيارته، وهو يهمّ بالخروج إلى عمله في 23 ديسمبر/كانون الأول 2023 وارتقى معه طفله حسين أيضاً. ترك لها طفلتين وذكرى مؤلمة.
في غياب المعيل، تقول آية التي تقطن في منطقة تل الزعتر لـ"العربي الجديد": "كل شيء عليّ، من المياه إلى الطعام، علماً أن الوجبة الوحيدة التي نعيش عليها هي وجبة الغداء، وهي عبارة عن عدس أو شوربة أو أرز. كنتُ أتمنى لو كان زوجي حيّاً ليساعدني في هذه المسؤوليات الجسيمة. كنتُ سأشعر بالأمان". وتوضح: "مع بدء العملية العسكرية الأخيرة، نزحتُ برفقة والدتي من بيت لاهيا شمال قطاع غزة إلى مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، وأسكن حاليّاً في خيمة. كانت رحلة النزوح شاقة ومتعبة، كوني كنت أحمل الحقائب وأحاول توفير الأمان لطفلتيّ من شدة خوفهما. لو كان زوجي موجوداً، لكان الوضع أفضل وساعدني بكل شيء".
لم تكن شهد المجبر تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها عندما استشهد زوجها عبد الهادي المدهون، وهي حامل بطفلتهما الوحيدة، هناء، التي أبصرت النور بعد مرور سبعة أشهر على استشهاد والدها. تعاني شهد من عدم الاستقرار، كونها تتنقل بين خيام أهلها وأهل زوجها في منطقة الشيخ رضوان غربي مدينة غزة، في ظل انعدام أي مأوى لها. وتُقاسي صعوبة بالغة في توفير الاحتياجات اللازمة لها ولطفلتها، وتقول لـ"العربي الجديد": "زوجي شهيد، وأسعى جاهدة لتأمين احتياجات طفلتي. أضطرّ للاصطفاف في طابور التكيّة ومياه الشرب، بالإضافة إلى التوجه للمؤسسات الخيرية من أجل تقديم الدعم اللازم لطفلتي من حليب وحفاضات، في ظل ارتفاع الأسعار بشكل جنوني وعدم قدرتي على شراء هذه المستلزمات الحيوية".
وعن النزوح الأخير من منطقة سكنها في الفالوجا غربي مخيم جباليا شمال القطاع، تواصل حديثها: "نزحتُ قبل أيام عدة من الفالوجا إلى حي الشيخ رضوان غربي مدينة غزة، وحينها شعرتُ بقسوة غياب الزوج، بسبب المعاناة التي عشتها، فكنتُ أحمل طفلتي وأغراضي في آنٍ واحد".
أما رائدة عبدالله فقد تضاعفت الأعباء الملقاة على عاتقها بعد استشهاد زوجها محمود عايش في 14 سبتمبر/أيلول 2024، حيث ترك خلفه عائلة مكوّنة من سبعة أفراد، ثلاثة من أبنائها من الأشخاص ذوي الإعاقة، ما جعلها تقوم بدور الأم في متابعة شؤون بيتها وتربية أبنائها، وبدور الأب في توفير لقمة كريمة لعائلتها. وتقول رائدة لـ"العربي الجديد": "أشعر اليوم بحجم المعاناة والفراغ الذي تركه زوجي، فقد أصبحت المُعيلة الوحيدة للعائلة، أنشغل بتربية الأولاد تارةً وبتوفير متطلبات الحياة تارةً أخرى، وهي متطلبات تزداد صعوبة في ظل تردّي الأوضاع المعيشية وعدم توفر أدنى مقومات الحياة الكريمة".
وتضيف: "المعاناة تزداد أكثر في ظل عدم وجود مؤسّسات وجهات داعمة تكفل زوجات وأبناء الشهداء، إذ بالكاد أستطيع توفير وجبة طعام واحدة خلال اليوم، وهو ما يدفعني للتوجه إلى بعض تكيّات الطعام، وفي بعض الأحيان أقف في طابور انتظار مياه الشرب. وكم نتمنى أن نحظى بدعم من المؤسسات الخيرية".
تعيش الفلسطينية ساهرة شقورة معاناة مركّبة تتمثل بفقد الزوج وعلاج الابن البكر الذي أُصيب بجروح خطيرة في الرأس، إذ استشهد زوجها محمد شقورة في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 في مخيم جباليا، بعدما أطلق عليه قنّاص إسرائيلي رصاصة أصابته في أذنه، وفقاً لقولها.
وتضيف شقورة لـ"العربي الجديد": "في غياب الزوج الحياة معدومة، وقد عانيتُ الكثير بعد استشهاده، وزادت المعاناة أكثر بعد إصابة ابني البكر (16 سنة) في رأسه، ومكوثه في العناية المركزة أكثر من شهر، فكان أن فقد السمع والبصر جزئيّاً، ولا يزال يعاني من أثر الإصابة، ولا يستطيع الحركة". وتُبيّن أن المهام الملقاة على عاتقها تضاعفت وتزداد صعوبتها أكثر في ظل تردّي الأوضاع الحالية. وتقول: "أصبحتُ مسؤولة عن تأمين المياه والدواء، لكن ما يؤسفني أكثر أننا اضطررنا لوقف علاج ابني، نظراً لضيق الحال. كل همّي اليوم أن أجد جهة تساعدني في علاجه، لأنه السند بعد غياب والده".
ومع استمرار الحرب وإحكام الاحتلال حصاره على القطاع، تبقى زوجات الشهداء أرواحاً تصارع الموت من أجل الحياة، فكلّ واحدة منهنّ تجسّد معاناة كبيرة، ويبقى مطلبهنّ الوحيد إنهاء الحرب ووقف شلال الدم والفقد، علّهنّ ينعمن ببعض الأمن والأمان، كما سائر الأمّهات حول العالم.

Related News

