خلال الأشهر الماضية، وجدت نفسي أختبر فضولاً من نوع خاص، دفعني للتساؤل: ما الذي يجعل بعض المنصات الرقمية الصينية تبدو لمستخدمٍ عربيٍ مثلي، أكثر تحيزاً وتشدداً من نظيراتها الغربية؟ من تيك توك إلى ديبسيك وتطبيقات أخرى أقل شهرة، خضت تجربة مستخدم حقيقية، لا تنظيرية، في محاولة لفهم هذا التوتر الملتبس بين الهوية الأصلية لتلك المنصات، ووجهها المعلن للمستخدمين العالميين.
ما أثار دهشتي واستغرابي المتكرر هو أنّ هذه المنصات، التي يُفترض بها أن توفر بدائل أو على الأقل منافسة للرؤية الرقمية الغربية، تتعامل مع المستخدم العربي، لا سيما حين يتعلق الأمر بالمحتوى السياسي أو الثقافي، بقدر من التشدد الرقابي يكاد يفوق المنصات الأميركية التي طالما اتُّهمت بالانحياز والعنصرية وتكميم الأفواه. شعرت أن المحتوى المتعلق بفلسطين، أو أي خطاب نقدي تجاه الهيمنة الغربية، يُقابل غالباً بالحذف، أو الخنق الخوارزمي، أو إشعارات الرقابة التي تأتي متخفية في صياغات مثل "انتهاك سياسات الاستخدام"! والأسوأ إعطاء رأي متحيز يتجاهل تماماً أن هنالك إبادة جماعية دائرة في غزة، ويحاول الظهور بعباءة العقلاني المتوازن الذي لا يستطيع إخفاء ازدواجية معاييره وطرحه.
هذا شعور حقيقي ناتج عن تكرار تجارب مختلفة على منصات متعددة، حيث حذف لي تيك توك منشورات داعمة لضحايا غزة وهدد بإيقاف حسابي بينما نشرها إنستغرام دون ضجة، حاورت تشات جي بي تي وجيميني وكان طرحهما النهائي واقعياً مائلاً للجانب العادل، بينما جاء طرح ديبسيك مشيناً منتقصاً من تضحيات عشرات الآلاف من ضحايا الإبادة الجماعية في غزة، وفي النهاية أغلق الباب في وجهي بادعاء أن سياساته لا تسمح بمناقشة هذه الأمور.
طبعًا لأنني لست متخصصاً في تحليل المنصات أو سياساتها، فإن كل ما أرويه هنا يأتي من موقع المراقب والمستخدم، لا الباحث الأكاديمي. ومع ذلك، يصعب تجاهل النمط الظاهر في تطبيقات صينية المنشأ، عندما تسلك سلوكاً رقابياً يهدف بوضوح إلى إرضاء الحكومات الغربية على نحوٍ مفرط يصل إلى حدود الامتثال القاسي، أو ما يمكن تسميته بلا مبالغة "الانبطاح".
كنت أتوقع امتثالاً وتحيزاً للسياسات الصينية، فهذه التطبيقات في النهاية وليدة ذلك النظام الشمولي، ولكن الأمور تبدو على العكس من ذلك، وعلى الأرجح وراء هذا السلوك اللاهث وراء الغرب دوافع تجارية واقتصادية بالدرجة الأولى. فالشركات الصينية تدرك أن الأسواق الغربية ليست فقط الأكبر، بل الأشد حساسية سياسياً. ولربما لأن هذه الشركات تخشى التهديد الدائم بالحظر كما حدث لهواوي، أو كما يُلاحق تيك توك في الولايات المتحدة فإنها تبدو مستعدة لتقديم أي تنازلات لازمة من أجل الحفاظ على شكل من الشرعية ووجودها داخل تلك الأسواق. وهنا يصبح من المؤسف أن نجد هذه الشركات تنفذ التعليمات الغربية بحذافيرها، وأحياناً بتطرف يجعل منها "ملكية أكثر من الملك".
وما يُثير الحنق هو أن هذا الامتثال الأعمى ليس متوازناً، بل انتقائياً ومشروطاً. فبينما نرى بعض المنصات تتساهل مع محتوى حساس أو جدلي في سياقات لغوية أو جغرافية معينة، نجدها تُشدد قبضتها حين يكون المحتوى باللغة العربية، أو حين يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، خاصة تلك التي تمس السردية الفلسطينية أو تنتقد ازدواجية المعايير الغربية. هذه ليست مصادفة، بل نمط يدل على رقابة ذاتية وقائية، تنبع من رغبة الشركات في تجنب أي اشتباه سياسي قد يُعرضها للمساءلة الغربية، حتى ولو جاء على حساب المستخدمين من خارج ذلك الفضاء السياسي.
وهنا، يعود السؤال الذي حرك فضولي في البداية: هل هذا مجرد امتثال ضروري بحكم طبيعة السوق؟ أم هو اختيارٌ استراتيجيٌّ يضع المستخدمَ العربيَّ دوماً في موقع الهامش؟ ربما الاثنان معاً، لكن في كلتا الحالتين، يبدو المستخدم العربي يقف في موقع متلقي اللكمات دائماً، غير قادر لا على التأثير ولا حتى على الاحتجاج الفعال.
وهكذا، نجد أنفسنا أمام واقع رقمي غير عادل، تتقاطع فيه أطماع السوق مع هشاشة الصوت العربي على الإنترنت. فالمنصات التي اعتقدنا لوهلة أنها بدائل للتضييق والحصار، تتصرف في بعض المواقف كما لو كانت نسخاً أسوأ من الهيمنة ذاتها. هذا الواقع، وإن بدا محبطاً، يدفعنا لإعادة التفكير ليس فقط في منصاتنا التي نستخدمها، بل في طبيعة العلاقة بين التكنولوجيا، والسلطة، والهوية، في زمن تبدو فيه الحياديات التكنولوجية مجرد واجهات لخوف عميق من فقدان الأسواق، لا من فقدان القيم.
الشركات الصينية تنفذ التعليمات الغربية بحذافيرها، وأحياناً بتطرف يجعل منها 'ملكية أكثر من الملك' في التعامل مع المحتوى العربي
في مواجهة هذا الإقصاء المنظَّم، لا بُدَّ من تحرّكٍ عربيٍّ جماعيٍّ يبدأ برفع الوعي بحجم التحيُّز الخوارزمي، والمطالبة بالشفافية في سياسات المحتوى، مع تفعيل آلياتٍ رقابيةٍ مستقلةٍ لتوثيق الانتهاكات. كما يجب دعم بدائل محلية وإقليمية قادرة على منافسة هذه المنصات، والضغط عبر الحملات الجماهيرية لوقف سياسة المعايير المزدوجة. الأهم هو رفض منطق الاستسلام للهيمنة الرقمية الجديدة، والتمسّك بحقّنا في صوتٍ رقميٍ عادلٍ لا يخضع لرهانات السوق أو انبطاح الشركات أمام القوى الغربية. فالتكنولوجيا لم ولن تكون محايدة، وإذا لم نصنع أدواتنا أو نحاول السيطرة عليها على الأقل، فسنظلّ مجرّد مستهلكين في نظامٍ يكرّس تهميشنا.
Related News


