
صَحبتهُ ضجة إلى مهرجان "كانّ" في دورته الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025)، ترافقت مع رسالة طالبت مندوبه العام، تييري فريمو، بعدم عرض الفيلم. لم يُعلَن عن اختيار "امرأة وطفل"، للإيراني سعيد روستائي، في القائمة الأولى للمسابقة. لاحقاً، أضيف إليها. أثيرت شائعات عن تدخّل شركة التوزيع الفرنسية، ثم احتجّت جمعية إيرانية للسينما المستقلة في الخارج، مُتّهمة إياه بالتواطئ مع النظام الإيراني، والانصياع له، لظهور ممثلاته بالحجاب الإلزامي (العربي الجديد، 13 مايو/أيار 2025)، ما يعني خيانة لحركة "امرأة. حياة. حرية"، وجيل الشابات الإيرانيات.
يُعدّ روستائي (1989) من أبرز نجوم الجيل الشاب لمخرجي السينما الإيرانية. فاز بجوائز وطنية وعالمية. في فيلمه الرابع، "امرأة وطفل"، يختتم ثلاثية بدأت مع "الأبد ويوم واحد" (2016) و"إخوة ليلى" (2022)، عن معاناة المرأة الإيرانية، وقدرتها على مواجهة تحدّيات النظام الأبوي. له أيضاً "المتر بستة ونصف، أو قانون طهران" (2019)، ثاني أكثر الأفلام غير الكوميدية مبيعاً في تاريخ سينما بلده.
ما يُعرف عنه، بفضل أفلامه الثلاثة السابقة، يجعل التوقّع كبيراً من جديده. لكنّ هذا خيّب آمالاً، مع تعقيد السرد وإطالته، وتحميل الفكرة الرئيسية ما لا تحتمل. إذا حصل هذا سابقاً، كان يأتي بقدر من دقّة وسلاسة وتحكّم، لا يدع معها مجالاً لتململ، كما حدث مع "امرأة وطفل"، الذي فيه مشاهد مكرّرة لرواح أبطاله ومجيئهم وتنقّلهم، من دون حدوث تطوّرات مهمة، أو تساؤلات عن مدى ضرورة تركيب أحداث على شيء من فذلكة لم تزد عليه، بل أثقلت فكرته البسيطة، ربما لإعطائه أبعاداً أعقد.
اقترب جديده هذا من أسلوب أصغر فرهادي، في بناء قصة أخلاقية، اشتهرت بها السينما الإيرانية، تتعقّد بعد أخطاء صغيرة متتالية، وتتحوّل إلى سلسلة أحداث تبدو تافهة، قبل أنْ تقود إلى حدث رئيسي حاسم. عواقبه، التي تزداد سوءاً، تُجبر الشخصيات على تحدّيها، إنْ لم تتغلّب عليها.
في "امرأة وطفل"، يتجلّى ذلك في حدثَين رئيسيَين حاسمَين. قصة حب بسيطة، تتحوّل بغتة إلى علاقة سامة وكره متبادل. هذا يحصل عادة. لكنْ، هنا، تداخلت مع عناصر كثيرة، وأصبحت كتلة مآسٍ متشابكة على نحوٍ مفتعل. استُهلّ السرد بمشاهد طويلة، حفلت بحوارات مملة في عاديّتها، خلال لقاءات بين مهناز (بريناز إيزديار) وحبيبها حميد (بيمان معادي)، أو بين آخرين في محيطهما، أوحت بشخصيات بسيطة لا تثير اهتماماً، وإنْ جسّد بعضها ممثلان، بحضورهما وأدائهما. تنكشف عقدة أولى عن النظرة إلى المرأة، هي هنا الأرملة، حين تريد الزواج مجدّداً، ولديها أولاد. حميد طلب من مهناز أنْ تخفي ولديها من شقتها عندما يأتي أهله لطلب يدها، خطوة أولى؛ حتى لا يصدمهم وضعها الأسري.
مهناز ممرضة (45 عاماً)، لها ابن مراهق وابنة صغيرة. تعيش مع أمها وأختها الأصغر منها. لا رجل في المنزل النسائي، غير الابن. يُقدّمه روستائي في مشهد أول، تنفيذه (الحركة السريعة والحيوية والمطاردة) يُشبه مشهداً من "قانون طهران". ولد طائش، لكنّه حنون. فائق النشاط، لا يكفّ عن ارتكاب الحماقات وتحدّي الكبار. متمرّد ومخادع، له أنشطة مشبوهة (حلقات مراهنة)، ما يتسبّب بطرده الدائم من مدرسته، وهذا يُسبّب مشاكل وتحدّيات إضافية للأم.
يرسم روستائي، عبر شخصياته، تفكّكاً تدريجياً لعائلة إيرانية، لأسباب تتراكم يومياً. يركّز على بطلته ودورها في التغلّب على كلّ مشكلة تعترضها. صراعها، خاصة مع الرجال (ابنها، مدير المدرسة، حميد، حموها السابق)، وسعيها جاهدة إلى التأقلم مع ما آلت إليه حياتها في كل مرة. وهذا مع قسوة الحياة عليها، فما يبدو في بداياته حدثاً سعيداً، مع زيارة الخطبة، أو حدثاً عادياً مع اصطحاب الولدين إلى جدّهما، استجابة منها لطلب حبيبها، سيكون كمن وضع اللبنات الأساسية لحصول كارثتَين، وإن تفاوتتا في درجة تأثيرهما.
خلافاً لما عُهِد عن مخرجه، يتضمّن جديد روستائي ثرثرة أقلّ، وايحاءات أكثر، فيكون الكشف تدريجياً. يلجأ غالباً إلى النظرات والإخفاء لتفعيل التشويق. أحياناً ينجح، وأحياناً أخرى يخفق. لكنّه قدّم إخراجياً أحد أفضل المشاهد (الزيارة). اتّكأ على ديكور المنزل وتقسيماته، والنوافذ الداخلية الزجاجية الشفّافة (استخدمتها مهناز لوحاً لتدريس طفليها، ما يُبرز أيضاً عنايتها الشديدة بهما)، وجرى تأطير الغرفة من بعيد، لتظهر الشخصيات ولا يُسمع الحوار. بهذا الحاجز الزجاجي، الذي وقفت خلفه وهي في المطبخ، التقطت مهناز تعابير الضيوف وحركاتهم، والأهمّ تلك النظرة التي وجّهها حميد إلى الأخت الصغرى، وبادلته إياها، من دون أي كلام، فنشأت شكوك وتخمينات، وتصاعد توتر الثلاثة عن معنى النظرة. ثم انهار بسببها عالم كان يبدو سعيداً ببساطته في البداية.
اختار الخطيب الأخت الصغرى، الأكثر امتثالاً وطاعة. كأنّ هذه الصدمة لا تكفي، إذْ لحقتها أخرى، ليحصل شبه انهيار للأسرة، التي كانت تقودها امرأة تعتمد على نفسها في تربية ابنيها، والعناية بأمها وأختها. لكنّ الانهيار لم يبقَ إلى النهاية. وفي هذا العالم غير المثالي، إذ المآسي تُصعّد في مواقف العنف والانتقام ومصارعة آلام لا تطاق، تفرض مسيرة الحياة قانونها، ويبزغ فجر جديد مع ولادة طفل جديد.
أغرق سعيد روستائي فيلمه في تفاصيل وحوارات لا طائل منها ولا متعة، وفي مشاهد غير ضرورية أثّرت على إيقاعه. هذا رغم اعتنائه بتصوير الأماكن الداخلية (مراكز العمل والمدرسة والشقّة) والخارجية (شوارع طهران)، ما أضفى حيوية خفّفت قليلاً من تكرار الأحداث والحوارات المملّة. كما لم يكن على حسن إدارته المعهود للممثلين، فبدا بيمان معادي باهتاً، وهو الممثل المبدع، بسبب شخصيته كرجل سطحي يميل إلى المرأة الخانعة.
أخيراً، يُرجى ألّا يكون روستائي منحازاً، في أفكاره وطريقته، لملاءمة جمهور أوروبي، هو الذي، على صغر سنه، نال قبولاً كبيراً وإعجاباً في بلده، قبل أنْ يعرفه الغرب.

Related News

