الدول العارية وعناصر القوة المهملة في الصراع
Arab
4 days ago
share

يتابع العالم بانقسام حادّ الحرب القائمة بين إيران و"إسرائيل"، كلّ من زاوية يوليها أهميةً ترتبط باتجاهاته الفكرية ومعاييره الخاصّة، التي يتنازع فيها الشخصي مع المعياري، لا سيّما عندما يكون له موقف من طرفَي النزاع أو أحدهما، فيكون خصماً لأحدهما أو كليهما. تلك احتمالات لا تنفكّ منها مواقف الأفراد والدول، وإن بدت في العلن خلاف ذلك. وتنوّع هذه المواقف واختلافها شأن طبيعي تجاه أيّ حرب أو صراع، تبعاً لمرجعياته، لكنّ الحالة المرتبكة من بين تلك المواقف تغليب الشخصي على المعياري، ويعني المعياري هنا إهمال الجانبين، الأخلاقي والقانوني، في المواقف، وإطلاق الأحكام من منظور عاطفي، ولئن كان ذلك مفهوماً من عامّة الناس، لا سيّما من اكتوى بظلم المتصارعَين، فمن غير المفهوم أن تكون العواطف مُوجِّهات في التحليل السياسي والاستراتيجي الذي طفحت به وسائل الإعلام المنقسمة بدورها، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي، حتى أصبح التحليل السياسي، في أحيان كثيرة، أقرب إلى حديث المقاهي وجلسات السمر منه إلى التحليل الرصين. وعليه، لا يحتاج القارئ مزيداً من التحليلات التي هي أقرب إلى الأخبار والوقائع، أو منظوراتٍ شخصيةٍ تكشف الأيام، بل الساعات، صحّتها أو زيفها، فالأكثر أهميةً الذي ينبغي أن يُسلّط الضوءُ عليه، وإن ليس راهناً، التنبيه إلى ما يكشفه كلّ صراع من مواطن الوهن التي ينبغي رصدها واستخلاص الدروس التي تمكّن من سدّها، فلكلّ صراع مهما طال نهاية، ولا بدّ فيه من منتصرين ومهزومين من منظورات مختلفة يرتضيها كلّ طرف، وإن بدت للآخرين خلاف ذلك، لكنّ الخاسر حقّاً، وإن لم يكن طرفاً في الصراع، من لا يأخذ الدروس والعبر، فتمرّ به صراعات أخرى لاحقاً أشدّ فتكاً، وهو لم يستفد ممّا كان يراقبه من قبل.

لا ينبغي إهمال التماسك المجتمعي والشعبي خلف الدولة القائمة، فهو أكثر عناصر كسب النصر أهميةً في أيّ معركة

أول ما يلفت النظر أن العرب (شعوباً ودولاً) في موقع المتفرّج والمترصّد ما يجري في إقليمهم، ليس لأنهم عاجزون فيما يبدو (لماذا؟ سؤال يستحقّ النظر) فقط، بل لأن إيران نفسها لم تستثمر في بناء ثقةٍ كافيةٍ مع جوارها العربي للدفاع عنها في هذه اللحظة ممّن يقدر على ذلك، بل كانت حليفةً لأنظمةً شنّت الحرب على شعوبها، وكانت شريكةً في قمعهم وقتلهم، وتسبّبت في تأجيج حروب ونزاعات لمّا تندمل آثارها، وبعضها لا يزال قائماً، فكانت بالنسبة إلى الشعوب المقهورة، ومن منظور حقوقي، نظاماً مصيره المتوقّع كمصير الأنظمة القمعية التي دعمتها، فهي لا تختلف عنها من هذه الناحية، وأهم عنصر مؤثّر في هذه الحرب القائمة يدلّ على أحقية هذا التقييم، فالاختراق الأمني الواسع، الذي ظهر عمق شرخه، يدل على انخرام الولاء للدولة، فالعمليات الميدانية من اغتيالات حالية وسابقة، وسرقات الأرشيف من قبل، والتفجيرات المختلفة خلال السنوات الماضية، التي تضاعفت وتوالت خلال الحرب أخيراً، تتجاوز إمكان عزوها إلى قوة الاستخبارات الخارجية المتوقّعة من كلّ الدول والخصوم، لتدلّ على أزمة مشروعية وولاء بين النظام والشعب، فالقوة والجيوش والشعارات الدينية لا تجلب الحصانة للنظام، ما لم يستند إلى مصدر الشرعية الأكثر أهميةً، وهو الشعب. فسنّة التاريخ أن الظلم مؤذِن بالخراب، والدرس السوري أقرب شاهد على ذلك، فممّا لا ينبغي إهماله في أيّ مرحلة هو التماسك المجتمعي والشعبي خلف الدولة القائمة، فهو فضلاً عمّا يوفّره من مشروعية للنظام القائم، يُعدّ أهم عناصر كسب النصر في أيّ معركة، ولا يخفى أن من أغراض نتنياهو الراهنة من هذ العدوان على إيران استثماره في بقائه في السلطة، بعيداً من المحاكمة، من خلال حرب تحظى بتأييد 83% من اليهود الإسرائيليين، حسب نتائج آخر استطلاعات للرأي (15- 16 يونيو/ حزيران 2025) نقلتها صحيفة وول ستريت جورنال، بينما يصعب في المقابل الوصول إلى تصوّر دقيق عن مواقف الشعب الإيراني من الحرب أو النظام نفسه، فيما تكشف كثرة العملاء صورةً مضادّةً، وهذا بحد ذاته مؤشّر مهم إلى عامل أساس من عوامل القوة أو الضعف، التي لا ترجع إلى الجانب المادّي من أدوات الصراع.

الأشدّ تأثيراً في مسار الحرب، هو التطوّر التقني والعسكري، الذي مكّن إيران رغم الحصار الطويل من الردّ المؤذي للعدو مرّات عدّة.

الجانب الثاني الذي برز أثره جليّاً في مسار المعركة هو التخطيط والنَفَس الطويل في الرصد والمتابعة ووضع الخطط والاحتمالات، وهذا جلّي في التنفيذ التدريجي والأولويات التي رسمها العدوان الإسرائيلي، ووضع احتمالات تأثيرات التغيّرات الممكنة في كلّ مرحلة، وهذا ما كان ليتم من غير مراكز بحثية لا تضع الخطط العسكرية فقط، وإنما تدرس أيضاً أبعاداً أخرى اجتماعية واقتصادية وجيوسياسية تتكامل لدى مؤسّسات صناعة القرار، وهذه المؤسّسات البحثية غير فاعلة في العالم العربي بما يكفي (إن وجدت)، ومن المؤسف هذه النظرة الدونية في العالم العربي للعلوم الاجتماعية والإنسانية، وعدم إدراك أهميتها في صنع القرار، ولا تحظى بالتمويل والتمكين من أسباب الموضوعية والدقة.
الجانب الثالث، الأشدّ تأثيراً في مسار الحرب، هو التطوّر التقني والعسكري، الذي مكّن إيران رغم الحصار الطويل (بخلاف دول لا حصار عليها لم تصنع شيئاً) من الردّ المؤذي للعدو مرّات عدّة، فقد تطوّرت الصناعة الإيرانية بشكل ملحوظ في مجال الصواريخ الباليستية، وتفوّقت أخيراً في تطوير طائرات من دون طيّار، واستُخدمت من حلفائها، وتصدّرها أيضاً. ومع ذلك، فإن هذه القدرات على أهميتها لا توفّر لها أدوات ردع متكافئة أمام تفوق إسرائيل الجوي والتقني، والتقنيات الاستخبارية والقدرات السيبرانية الهجومية والدفاعية، التي تتجاوز الدعم الغربي، بل هي ممّن يصدّر هذه التقنيات، حتى للغرب نفسه.
هذا التفوق العسكري والتقني والاستخباري، الذي تفوّقت فيه إسرائيل في حربها على إيران، لم ينفعها في غزّة، فلا هي استطاعت باستخباراتها تجنّب "7 أكتوبر" (2023) حينها، ولا تمكّنت بعسكرها ومعلوماتها من استعادة أيٍّ من أسراها أو جثثهم، ولا هي قادرة على حسم معركة ميدانية وفق ما يحقّق أهدافها، ما يعني عطفاً على ما سبق (وهو الدرس الأكثر أهميةً)، أن القوة والتقنية والاستخبارات ليست كلّ شيء، فالإيمان بالمبادئ والتمسّك بالحقوق، إن لم يحقّقا نصراً، فمن شأنهما منع العدو من إعلانه، وإن كان الثمن غالياً، أو طال الزمن، والحالة السورية أقرب شاهد.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows