
سواء أكان الحديث عن "الكتاب الجزائري"، ويُقصد به الكتاب الذي هو ثمرة للمشهد المحلي تأليفاً وطباعةً ونشراً وتوزيعاً، أم عن "الكتاب في الجزائر"، ويُقصد به الكتاب بصفته سلعةً قادمة من خارج الحدود، باللغتين العربية والفرنسية، بصفتهما اللغتين المهيمنتين على مجال القراءة في الجزائر، فإنّ هناك جملة من الأسئلة تشير إلى اختلالات عدّة.
وتجاوزاً لسؤال: من يكتب/ يؤلّف في الجزائر؟ الذي قد تُلمس له إجابة ما، في كثير من الجوائز الجزائرية والعربية والفرنسية التي تُمنح سنوياً لعشرات الأسماء، منها من يُتوّج، ومنها من يصل إلى القوائم الطويلة والقصيرة، ومنها من يُنوَّه به، فإنّه لا يُمكن تجاوز أسئلة أخرى، من قبيل: ما هو واقع المكتبات الحكومية، وهل تملك خطّة لتحفيز فعل القراءة، في بلد يدخل العقد السّابع من استقلاله الوطني؟ والعام السّادس من ظهور مقولة "الجزائر الجديدة"، على ألسنة المسؤولين، بعد الحراك الشعبي والسلمي؟
جمرة تحت الرّماد
من المفيد هنا استحضار حادثة إقدام الفرنسيّين، بعد توقيع اتفاقية وقف إطلاق النّار، مع "جبهة التحرير الوطني"، في شهر مارس/ آذار 1962، على حرق 400 ألف كتاب ومخطوط، في مكتبة جامعة الجزائر، في السابع من يونيو/ حزيران من العام نفسه، فكأنهم أرادوا أن يطمسوا ذاكرة الجزائريين الذين قرّروا استعادتها، من خلال ثورة التّحرير، ثم من خلال الاستفتاء على الاستقلال.
التقطت حكومة ما بعد الحراك الشعبي هذه الإشارة التّاريخية، عام 2021، واعتمدت 7 يونيو/ حزيران يوماً وطنياً للكتاب والمكتبة، ليظلّ عتبة تذكير لا عتبة تغيير، في ظلّ المشكلات والنقائص والفراغات التي يعرفها المجال.
إقرار اليوم الوطني للكتاب والمكتبة ظل حبراً على ورق
ليست تلك هي الفرصة الوحيدة الضائعة، إذ كان إقرار اليوم الوطني للكتاب والمكتبة، قادراً على أن يكون منطلقاً لوضع استراتيجية حقيقية للقراءة، تنتقل بها من الارتجال إلى التخطيط، ومن الماضوية إلى المعاصرة، ومن الاستعراض إلى العرض، ومن الاكتفاء بالمبادرات الموسمية، إلى السيرورة الدائمة. بل إن هناك فرصاً ضائعة أخرى، منها عدم استغلال إمكانيات وصلاحيات "المركز الوطني للكتاب" الذي نجد في وثيقة تأسيسه عام 2009 "أنه مؤسّسة عمومية تقع على عاتقها إدارة السّياسة الوطنية المتعلّقة بالكتاب وإعداد الدّراسات والإحصائيات الخاصة بالقراءة". أي إنّه مسؤول مباشرة عن وضع استراتيجيات القراءة ورعايتها وتنفيذها، لكن الواقع يقول إنه لا يظهر في الميدان، وإذا ظهر مرّة في العام والعامين، فإنه فقط لينظّم ندوة دراسية خارج الاختصاص.
تستعاد في هذا السياق مفارقة عن هذا المركز، هي أنه برمج ندوة عن أدب المقاومة، فخاطبه أحد الكتّاب في رسالة فيسبوكية: "هل دوركم أن تأخذوا دور المراكز الثقافية، فتنظّموا ندواتٍ وجلساتٍ عابرة، أم هو أن تنجزوا دراساتٍ، وتقوموا بعمليات سبر آراء، عن واقع وتحوّلات المقروئية، فتستفيد منها الجهات الحكومية والشّعبية المكلفة بذلك".
جدران بلا روح
الإمكانات التي يتوفّر عليها هذا المركز، يقابلها أداء هزيل وحضور باهت. وكأنه وجد فقط لتسيير أجور عمّاله، كما يؤشر على أن الحكومات المتعاقبة، حرصت على أن تنشئ مؤسّسات وهيئات وإدارات ومرافق في مختلف الحقول الثقافية، ويوجد بعضها حتّى في القرى النائية، لكنّها لم تؤطرها بسياسة واضحة المنطلقات والأدوات، تساهم في التنمية البشرية، بحيث تصبح طرفاً في صناعة الوعي وتنقية الذوق وتعميق التوازن الفكري والنفسي لدى المواطن.
حُوِّلَت بعض مكتبات البلديات إلى مرافق إدارية أو صحية
لا تخلو بلدية من البلديات الـ 1541 من مكتبة بلدية، ولا محافظة من المحافظات الـ58 من مكتبة مركزية لها عدّة فروع في الضواحي، فضلاً عن المكتبة الوطنية التي تأسّست عام 1835، ولها عدّة ملاحق في عدّة محافظات، لكنّها ظلّت كتلاً صمّاء، لا تملك رؤية في تعزيز جيوب القراءة وتغذيتها في المجتمع، ولا تستقبل منه إلا المقبلين على الامتحانات، ليراجعوا دروسهم فيها.
ففي محافظات برج بوعريريج، شرقاً، والأغواط وغرداية، جنوباً، ومعسكر، غرباً، والأمر قابل للتعميم على كثير من المحافظات، حيث يتمّ تحويل المكتبات البلدية التّابعة لوزارة الدّاخلية والجماعات المحلية، إلى مرافق إدارية أو صحّية، بعيداً عن أي مسؤولية ثقافية لدى السّلطات التي ترى فيها ترفاً زائداً، أو لدى النخب التي باتت تكتفي بالشكوى، في مواقع التواصل الاجتماعي.
جنين مجهض
شكّل إطلاق "منتدى الكتاب"، من طرف وزارة الثقافة والفنون، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، على مستوى المكتبات الرئيسية، في عواصم المحافظات الثماني والخمسين، بشرى للأطراف الشعبية المعنية بفعل القراءة، إذ يُنظّم مرتين في الشهر، ويُعنى بمدّ الجسور بين من يكتب ومن يقرأ، لكنه بصدد دخول عامه الثاني، من غير إحداث أيِّ أثر يُذكر.
لقد أدّت عوامل متعددة إلى مقاطعة شعبية ونخبوية لنشاطات هذا الوليد الجديد، ومنها غياب سياسة إشهارية وتسويقية مواكبة لشغف الجيل الشاب، ونمطية إدارة جلسات المنتدى، واستبعاد النوادي القرائية الناشطة في الميدان، والوجوه الإبداعية المالكة للمشاريع والأفكار، ما عدا مكتبات قليلة، بالنظر إلى طبيعة العاملين المتفتّحين على محيطهم، مثلما هو الشّأن في مكتبة المحمّدية بالجزائر العاصمة، ومكتبة أم البواقي ومكتبة الجلفة ومكتبة تلمسان. ما جعل القائمين عليه ينشرون على صفحة المنتدى في فيسبوك صوراً تركّز على المنصّات، وتتحاشى إظهار القاعات حتى لا تظهر خالية، إلا من وجوه قليلة، معظمها من عمّال المكتبة المستضيفة، ومن أقارب الكاتب الضيف.
نقطة ضوء
بالرغم من بعض النقائص والاختلالات، يظل معرض الجزائر الدولي للكتاب، مطلع كل نوفمبر/ تشرين الثاني، فضاءً مثيراً للانتباه، يتنفس فيه الجزائريون كتباً، ويحوّلون بكل شرائحهم قصر المعارض في الجزائر العاصمة، إلى احتفال شعبي حقيقي، باتت وسائط التواصل الاجتماعي تتناقل تفاصيله التي لا نجدها في معرض كتاب محلي آخر.
وهو إن كان يشكّل فرصة للقرّاء، لاقتناء المتاح لهم من الكتب، خاصّة الشباب منهم، إذ تنسف كثافة إقبالهم على أجنحة المعرض الحكمَ الجاهز عليهم بالعزوف عن القراءة، فهو يشكّل فرصة أيضاً للمكتبات الحكومية لتزويد رفوفها بعناوين حديثة، مع حاجتها إلى رؤية جديدة في استقطاب القرّاء، حتّى لا تبقى حبيسة الغبار.

Related News

