نجيب محفوظ من الرواية إلى الكوميكس: "ميرامار" ترجمة شخصيات صوتية
Arab
4 hours ago
share

بعد 58 عاماً من صدور رواية "ميرامار" لـ نجيب محفوظ (1967)، تُعاود الرواية الشهيرة الظهور عبر وسيطٍ فنيٍّ جديد، روايةً مصوَّرة. وقد صدر النص مؤخراً في القاهرة بطبعةٍ مشتركة بين داري ديوان والمحروسة، ممهوراً بأسماء فريق عمل فني محترف. كتب السيناريو محمد السرساوي بإشراف محمد إسماعيل أمين، ونفّذت الرسوم ورشة من أربعة رسامين متخصصين في فن الكوميكس، هم: سلمى زكريا، وميجو، وجمال قبطان، وحسين محمد، فضلاً عن أسماء أخرى نفّذت الخطوط وأعمال الغرافيك والغلاف الخارجي والداخلي.

ربما يعرف عديد من القرّاء العرب ملخص حبكة الرواية التي تدور أحداثها داخل بنسيون ميرامار بالإسكندرية، في أعقاب ثورة يوليو، لتعكس تحوّلات المجتمع المصري عبر عددٍ من وجهات النظر المتباينة لنزلاء، أتى كلٌّ منهم إلى البنسيون بدافع مختلف. 

ثمة الصحافي المتقاعد عامر وجدي، ابن ثورة 1919، الثمانيني الذي لم يعد لقلمه مكانٌ في العصر الجديد، وطلبة بك مرزوق، صاحب المنصب المرموق سابقاً في وزارة الأوقاف، والمتقاعد بدوره مع مصادرة ممتلكاته. كلا الرجلين المنتميين إلى "العصر البائد" يحومان حول ماريانا اليونانية، صاحبة البنسيون الستينية، ابنة الزمن المتبدّد بدورها، بين انجذابٍ قديمٍ محبط يمثله عامر، وعلاقةٍ متأخرة يائسة ستجمعها بمرزوق. 

استناد شكلاني إلى النص المحفوظي، يدعمه استناد لغوي

في المقابل، يتمثّل شباب الحقبة في ثلاث شخصيات: سرحان البحيري، الموظف الذي يقدِّم نفسه ابناً لخطاب ثورة يوليو، ومنصور باهي، المذيع في أثيرها وشقيق الضابط المتنفذ، وحسني علام، المتبطل المتشبث بأهداب كينونته المتراجعة بوصفه واحداً من الأعيان. يحوم الثلاثة بدورهم حول فتاة: زهرة، الشابة الريفية النازحة، أو الهاربة بحثاً عن التحقّق والخلاص. يحتدم صراع وتشابكات رؤى وأجساد، حتى يُعثر على جثمان سرحان البحيري قتيلاً في الشارع، إلى أن تتكشف حقيقة انتحاره بعد أن ضُلِعَ في عملية غير قانونية. فكيف تعامل النص البصري مع الحبكة المحفوظية، ائتلافاً واختلافاً؟

يتبنى سيناريو محمد السرساوي بنية رواية محفوظ نفسها بوصفها رواية أصوات، فيوزع السرد على خمسة فصول معنونة بأسماء أربع شخصيات، تسرد كلٌّ منها فصلاً من منظورها، تماماً كالنص الأدبي، وبالترتيب نفسه: عامر وجدي، حسني علّام، منصور باهي، سرحان البحيري، عامر وجدي مجدداً. تأكيدٌ مبكر للاستناد الشكلاني إلى النص المحفوظي، يدعمه استناد آخر إلى اللغة انطلاقاً من السطر الأول، إذ تُستهل الرواية المصوَّرة بالعبارة الأيقونية نفسها التي افتُتِح بها النص الأدبي: "إسكندرية قطرة الندى، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع".

غير أنّ السيناريو، ومن داخل هذه المحاكاة لإطار النص الأصلي، يقدم عدداً من الاقتراحات المختلفة لترجمة أصوات الشخصيات بصرياً، متشبثاً بخصوصيته؛ ولا سيما أن طبيعة رواية الأصوات، بنزوعها الذاتي التأملي وغورها الباطني المونولوجي، قد تواجه صعوبة كبيرة في تمثيلها صورةً.

ثمة سِمة تنسحب على الشخوص المرسومة كلها، إذ تظهر الشخصية محاطة بإطارٍ أبيض مرتجَل متكسِّر يفصلها عن الخلفية، كأنها انتُزعت من دون حرص من خلفيات أخرى لتلصق قسراً على خلفيات جديدة، وبأحجام متباينة عندما تجتمع، تؤكد عدم الانسجام بين النسب الأصلية وتُعمق التنافر البصري بين الكتل، ولا سيما في نصٍّ كنائي. هذه السمة أراها شديدة العمق في تقديم رؤية النص البصري لطبيعة شخوصه المنبتّين عن واقعهم الأصلي، لصالح واقع "ميرامار" البديل والطارئ.

بالاقتراب من أصوات الشخصيات، يتعامل النص مع كل صوت عبر منحه سمات بصرية مفتاحية تختزل صورته إلى عمقها موجوداً ومشهداً. من الكادر الافتتاحي لعامر وجدي، نرى المدينة ولا نرى وجهه، إذ يُقدَّم من الخلف (يدير ظهره لواقعه)، ثم يظهر جسده كسلويت ضئيل بلا ملامح يبذر ظلاً عملاقاً (في تأويل بصري لعلاقة حاضر الشخصية الضئيل بماضيها الكبير). يد الصحافي (المتبطلة بعد سقوط القلم) هي أول ما يُقدَّم في لقطةٍ مقربة من جسده، بينما تقبض على درابزين سلم البنسيون في ظلمة سادرة، رغم أن عامر يُقدَّم في كل تلك المشاهد في سطوع ضوء الظهيرة؛ إلا أن ليل عالمه الداخلي هو ما يُؤطِّر مشاهده، فيبدو على الدوام سادراً في ظلمة. وتُقاربه الرسوم أغلب الوقت أقرب إلى سجينٍ على كرسي متحرك، منه إلى جالس على مقعد، بيدين نائمتين على ركبتيه وساقين مدلاتين.

بالانتقال إلى شخصية حسني علام، يتقدّم السيناريو خطوة أبعد في إعادة بناء صوت الشخصية مشهدياً، إذ يلتقط عبارة علام المفتاحية: "فريكيكو لا تلُمني"، ليجسد منها شخصية قرين متجسد ربما يمثل الأنا السفلى، أقرب إلى هيئة أراجوز يحمل أوراق اللعب التي تمثل البوصلة لحسني في تقرير خطواته القادمة.

مع صوت منصور باهي، يغور السيناريو في اقتراح خاص لخطاب الشخصية عبر قالب جديد؛ فمروية باهي تبدأ بلقطة مقربة لميكروفون، ثم يُروى خطابه بالكامل كأنه يخاطب مستمعيه عبر برنامج، في توظيف فني لمهنته مذيعاً. يُبرز هذا الاقتراح تأويلاً لعمق نفوره من سرحان البحيري، إذ كلاهما يقف خلف ميكروفون يخاطب قطيعه، وكلاهما يتصارع على زهرة/مصر، المرغوبة والمستعصية. يغلب على هذا الفصل نزوع أعمق للتجريد، وتصوير هذيانات العالم الداخلي بمعادِلات بصرية كابوسية، تصل ذروتها باعتراف باهي الزائف بقتل سرحان البحيري، في مشهدٍ فوق واقعي يبدو مؤلفاً من شظايا زجاج تضم أشلاء يصعب فيها أن نعرف: أهي لباهي؟ أم للبحيري؟ أم أن كليهما وجه للآخر؟

أما مروية البحيري نفسه، فتشهد تقنياً أكثر الفصول اتزاناً بين التعليق الإطاري لصوت سرحان الداخلي وصوته الحواري المُعلَن، وكلاهما صُمّم في السيناريو ليُبدي خطاب البحيري في إجماله مثل حلم يقظةٍ استباقي، يطفو فيه زمنه المستقبلي البديل فوق زمن الواقع الملموس حتى يبتلعه ويحلّ محله.

خلقت "ميرامار" المصورة إذن خصوصيتها من خوض رهان ترجمة كل صوت إلى أفق بصري، لتطرح المرئياتُ مجتمعةً جوهرَ خطاب الرواية في عكس الواقع الواحد واقعاً متكثّراً، ولتفتح الصيغةُ الجديدةُ باباً آخر على بهو الفندق الصغير، يمنح المكان الضيق ضوءَ تأويلٍ، يوسِّع من حدوده من دون أن يقوّضها.


* روائي من مصر

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows