
عاش سكان مدينة حلب، ثاني أكبر المدن السورية، سنواتٍ مريرة من النزاع، ودماراً هائلاً طاول المنازل، ومن بين أكثر الفئات تضرراً المهجرون الذين اضطروا إلى ترك ديارهم قسراً تحت ضغط الحرب أو الخوف أو انعدام الأمان والخدمات، والذين لم تكن معاناتهم محصورة في الرحيل، بل امتدت إلى فقدان منازلهم وممتلكاتهم، والتي جُرِّدوا منها باستخدام وثائق مزوّرة.
وبحسب لجنة معالجة حالات الغصب العقاري في حلب، بلغ عدد الطلبات المقدّمة لاستعادة المنازل المغتصبة نحو 700 طلب، أُحيل منها نحو 400 ملف إلى شرطة المحافظة. وحتى الآن، لم يُتخذ قرار بإزالة الغصب إلا عن 46 منزلاً، فيما أُحيلت 12 قضية إلى القضاء المدني، وبقيت عشرات الحالات الأخرى حبيسة الإهمال أو طي الكتمان، في ظل صعوبات كبيرة تتعلق بالتبليغ والمتابعة القانونية.
عاد السوري محمد البرهوم، إلى حي صلاح الدين بمدينة حلب بعد سنوات من التهجير، ليُفاجأ بأن شخصاً غريباً يقيم في منزله، وعند الاستفسار، تبيّن أن "المالك الجديد" اشترى العقار بموجب عقد مزوّر، ومن دون علم العائلة أو موافقتها، بينما البيت يعود إلى جد البرهوم، وكان مقراً للثوار في بعض فترات الحرب، واستولى عليه عناصر الأمن العسكري مع الشبيحة، وحوّلوا طابقه الأرضي إلى مفرزة، بينما استثمروا الدكاكين المجاورة عبر الإيجار أو البيع.
يقول البرهوم لـ"العربي الجديد": "بدأت عملية الاستيلاء عبر شخص يُدعى طلال نداف، والذي اشترى المبنى أولاً، ثم باعه لاحقاً إلى آخر يدعى علي أصفري، ومن بعده إلى علاء الحمود، والذي يعمل وسيطاً في صفقات البيع، ويُعرف بارتباطه بشبكات من الشبيحة التي تدير مكاتب عقارية متصلة بشخصيات نافذة في النظام السابق، مثل مدير فرع الأمن العسكري، وهؤلاء كانوا يبيعون البيوت بأبخس الأثمان مستغلين غياب أصحابها وقوة نفوذهم الأمني".
بدوره، يقول المحامي عثمان الخضر، لـ"العربي الجديد"، إن "ظاهرة تزوير عقود البيع طاولت مئات المنازل، خصوصاً في الأحياء التي كانت تحت سيطرة المعارضة، وشهدت موجات تهجير جماعي بعد سيطرة النظام السابق عليها، ووراء كل هذه الصفقات شبكات من السماسرة، تشمل موظفين في الدوائر العقارية، ومحامين، وحتى قضاة. لدي عشرات الدعاوى المتعلقة بعقود مزوّرة، وأكاد أحضر يومياً إلى قصر العدل لمتابعة هذه الملفات، لكن الطريق طويل، فالقاضي الذي كان جزءاً من منظومة الفساد في السابق، هو ذاته الذي نحاكم أمامه اليوم، ما يجعل رحلة استرداد الحقوق معركة صعبة".
ويُشير الخضر إلى أن "الإجراءات القضائية المعقّدة، والمماطلة المتعمّدة تُثقلان كاهل الضحايا، والذين لا يملكون غالباً وثائق تثبت حقوقهم، وبعضهم مغتربون، ولا قدرة لهم على متابعة القضايا من خارج البلاد".
وتُعد هذه الممارسات اعتداءً مباشراً على حق الملكية، بحسب القانون المدني السوري، والذي ينص على أن "لمالك الشيء وحده، في حدود القانون، حق استعماله واستغلاله والتصرف فيه". ومع ذلك، يواجه أصحاب العقارات المنهوبة تحدياً قانونياً وأخلاقياً في بيئة لا تزال تعاني من آثار الحرب، ومن فساد القضاء الذي يعد عقبة أساسية أمام استعادة الحقوق، إذ تُتهم بعض الجهات القضائية بالتواطؤ مع شبكات التزوير وتعطيل سير العدالة عمداً.
بدوره، يقول المحامي أحمد مزنوق لـ"العربي الجديد"، إنه "بعد عودة المهجرين، فوجئ الكثير منهم ببيع أملاكهم عدة مرات متتالية، واستغل بعض المتنفذين في حلب، وبعض المتعاونين مع أجهزة أمن النظام السابق، غياب أصحاب العقارات، أو عدم قدرتهم على العودة لتقديم دعاوى ضدهم، وادعاء أنهم اشتروا هذه المنازل، وأنه بسبب ظروف الحرب لم تسجل هذه البيوع، مع اصطحاب شهود زور".
ويضيف مزنوق: "عندها يحاول القضاة التواصل مع المهجرين من خلال عناوينهم المسجلة نظامياً، يتغيب هؤلاء عن الحضور لأنهم في الواقع هجروا إلى خارج حلب بسبب الملاحقة الأمنية، فتبدأ إجراءات المحاكمة من دون أي دفاع من أصحاب الأملاك الحقيقيين، وهنا يبدأ دور محامي المدعي في تقديم عقود مزورة وشهود زور، وفي كثير من الحالات يصدر حكم قضائي لصالحهم. في وقائع كثيرة شهدت هذه الأملاك عدة بيوع لاحقة، واليوم ينظر القضاء في الكثير من هذه القضايا، بينما المهجرون ما زالوا في خيامهم ينتظرون حقوقهم".
وتواجه جهود استعادة الممتلكات تحديات كبيرة، من بينها فقدان الوثائق الرسمية، والتغييرات القانونية التي أجراها النظام السابق، كما أن بعض القوانين، مثل قانون الإصلاح الزراعي لعام 1958، استخدمت لتبرير مصادرة الأراضي الزراعية من دون تعويض عادل.
قبل ثلاث سنوات، قدرت جمعية المعتقلين والمفقودين في صيدنايا (حقوقية)، في تقرير لها، أن النظام السوري السابق صادر ممتلكات شخصية تزيد قيمتها عن 1.5 مليار دولار، شملت منازل، وأراضي زراعية، ومتاجر، وسيارات، ومجوهرات، خاصة من أولئك المتهمين بالمشاركة في الاحتجاجات المناهضة للنظام. واستند النظام في تبرير المصادرة إلى قوانين مثل القانون رقم 10 لعام 2018، والذي يسمح بإنشاء مناطق تنظيمية جديدة، ما يؤدي إلى مصادرة الممتلكات من دون تعويضات مناسبة.
ووفقاً لإحصائيات أممية، غادر أكثر من 13 مليون سوري بلداتهم ومدنهم قسراًَ منذ عام 2011، من بينهم 7.2 ملايين نزحوا داخلياً و6.5 ملايين غادروا البلاد وتحولوا إلى لاجئين أو طالبي لجوء في دول مختلفة.

Related News



