
تشير التحركات الأخيرة في عدد من البنوك المركزية الكبرى في آسيا الناشئة إلى تراجع ملحوظ في وتيرة تدخلها في سوق العملات، وذلك في ظل تغيّرات لافتة في المشهد الاقتصادي العالمي. ففي الهند وماليزيا، قامت السلطات النقدية بتقليص بعض المراكز المشتقة التي اعتادت استخدامها للحد من قوة عملتيها. أما في تايوان، فقد تُرك المجال أمام العملة المحلية للارتفاع أمام الدولار، مع مؤشرات من البنك المركزي التايواني تفيد باستعداده لقبول مزيد من هذا الارتفاع طالما يتم بشكل "منظم". وفي كوريا الجنوبية، أنهى صندوق التقاعد الوطني، أحد أكبر المستثمرين في البلاد، دعمه للون بعد أشهر من التدخل المستمر.
وبحسب ما نقلت وكالة "بلومبيرغ"، فإن أحد أبرز الأسباب وراء هذا التحول هو التراجع الملحوظ في سعر صرف الدولار، الذي فقد أكثر من 7% من قيمته هذا العام، مما خفف الضغط على عملات الأسواق الناشئة. كما يبرز عامل آخر يتمثل في الحذر المتزايد من رد فعل الإدارة الأميركية، في ظل تصاعد التوترات التجارية، واحتمال استخدام سياسات العملات كورقة تفاوضية. وفي هذا السياق، حذر مدير المحافظ في شركة "GAMA" لإدارة الأصول راجيف دي ميلو، من أن أي تدخل مفرط في أسواق العملات قد يُعرض الدول الآسيوية لاتهامات بالتلاعب من قِبل واشنطن، وهو ما قد تكون له تبعات سلبية، خصوصاً في مرحلة المفاوضات التجارية الحساسة.
هذا التغيير في النهج يعكس التأثير العميق للسياسات الأميركية على سلوك الأسواق العالمية، لا سيما منذ تولي دونالد ترامب الرئاسة، حيث أدت تصريحاته المتكررة بشأن الرسوم الجمركية إلى تقلبات حادة في الأسواق المالية، وطرحت تساؤلات حول مستقبل الدولار كمحور رئيسي في النظام التجاري الدولي. وفي حين نفت إدارة ترامب وجود نية لإضعاف الدولار من خلال صفقات خفية.
في السياق، أكد كبير الاقتصاديين في البيت الأبيض ستيفن ميران تمسّك بلاده بسياسة "الدولار القوي"، فإن التحركات في الأسواق تشير إلى أن بعض الدول بدأت فعلاً تتهيأ لفترة أقل تدخلًا. وقد صعدت عملات عدة بشكل ملحوظ هذا العام؛ إذ ارتفعت العملة التايوانية بنسبة 11%، مسجلة أعلى أداء في المنطقة، تبعها الون الكوري بارتفاع يقارب 8%، والرينغيت الماليزي بنحو 5%. بينما تهاوى الدولار هذا العام أمام العملات الرئيسية، مسجلًا انخفاضات بنحو 10% مقابل كل من اليورو والفرنك السويسري، وفق "بلومبيرغ".
ويُرجّح مراقبون أن تستفيد هذه العملات أكثر مع تقليص التدخلات، لا سيما في الدول التي تتمتع بفوائض تجارية، مثل كوريا الجنوبية وماليزيا. وفيما يستمر البنك المركزي التايواني في مراقبة السوق تحسباً للتقلبات، إلا أن الاتجاه العام يُظهر تساهلاً أكبر مع ارتفاع العملة المحلية. لكن هذا الاتجاه لا يسري على جميع الدول، ففي إندونيسيا، تدخل البنك المركزي لكبح تقلبات العملة وسط توترات إقليمية، بينما تبعث الفيليبين برسائل متضاربة بين رفض جدوى التدخل وإمكانية اللجوء إليه مجددًا في حال استمر تدهور البيزو. أما الصين، فلا تزال تسيطر بإحكام على مسار اليوان.
تجدر الإشارة إلى أن وزارة الخزانة الأميركية، ورغم عدم تصنيف أي دولة كمُتلاعبة بالعملة في تقريرها الأخير، إلا أنها وضعت ست دول آسيوية — بينها الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، وتايوان — تحت المراقبة بعد أن استوفت اثنين من المعايير الثلاثة التي تعتمدها واشنطن لتقييم السياسات النقدية الخارجية، بحسب وكالة "بلومبيرغ".
وفي ظل بيئة اقتصادية عالمية مضطربة، تستمر التوترات الجيوسياسية والتجارية في تشكيل أفق الأسواق المالية، حيث يظل الدولار الأميركي المحور الرئيسي لسعر الصرف العالمي. هذا العام شهد تراجعًا غير مسبوق لقيمة الدولار، مما أدى إلى تخفيف الضغوط على عملات الأسواق الناشئة في آسيا، التي لطالما اعتمدت على تدخلات نقدية نشطة للسيطرة على تقلبات أسعار صرفها وحماية اقتصاداتها من صدمات خارجية.
ومع تصاعد المخاوف من تداعيات النزاعات التجارية بين الولايات المتحدة ودول آسيوية مثل الصين وكوريا الجنوبية، إضافة إلى تصاعد التوترات الإقليمية في الشرق الأوسط، باتت البنوك المركزية في هذه الدول تواجه تحديات جديدة في إدارة سياسات عملاتها. فالتدخل المكثف في سوق العملات قد يعرضها إلى مخاطر سياسية، خاصة في ظل رغبة الإدارة الأميركية في تجنب ما تصفه بـ"التلاعب بالعملات" كوسيلة لتعزيز الميزة التنافسية في التجارة الدولية.
وبحسب ما نقلت وكالة "بلومبيرغ"، فإن هذه التطورات دفعت عددًا من البنوك المركزية في آسيا إلى تقليص تدخلاتها، خاصة مع تراجع الدولار وتزايد التكهنات بأن ملف العملات سيكون جزءًا من المفاوضات التجارية القادمة بين واشنطن وشركائها. هذا التوجه الجديد يعكس رغبة في تقليل الاحتكاك السياسي مع الولايات المتحدة، مع الحفاظ على استقرار السوق، خاصة في ظل تقلبات متزايدة ناجمة عن الأزمات السياسية الإقليمية، مثل التوترات في الشرق الأوسط، وتأثيراتها على أسواق النفط والتمويل.
كما يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة من الدول الآسيوية لموازنة مصالحها الاقتصادية الوطنية مع الضغوط الدولية، في وقت تشهد فيه سلاسل التوريد العالمية اضطرابات متكررة، وارتفاعًا في تكاليف التمويل، ما يفرض على البنوك المركزية اعتماد سياسات أكثر توازناً وحذراً تجاه تحركات أسعار العملات. وبذلك، تصبح التحديات أمام البنوك المركزية أكثر تعقيدًا، فهي مضطرة إلى التفاعل مع مؤثرات داخلية وخارجية متشابكة، في بيئة دولية تتسم بعدم اليقين السياسي والاقتصادي، ما يجعل مستقبل سياسات التدخل في سوق العملات غير واضح ويحتاج إلى تقييم مستمر.

Related News


