هنا يقف الأقصى عند نقطةِ تقاطع ثلاثي: بين نصٍّ قانونيّ يُشَرْعِن المقاومة، وواقعٍ سياسيّ عسكريّ يفرض منطق الهيمنة، ووعدٍ إلهيّ يُبشِّر بالزوال، هذا التقاطع الثلاثيّ أفرز لنا مفارقة وجودية؛ بين (حتميّة المقاومة) الحتمية المرتكزة على أُسس القانون الدولي والنواميس الإلهية المعززة لهويتنا وكرامتنا الإنسانية، وبين (مقاومة الحتميّة) الحتمية الزائفة التي صُنعت بأيدٍ غربية وفرضت ضمن واقع الهيمنة القسريّة، حيث أرادوا أن نؤمن بهذه الحتميّة على أنها قدر لا يُرد، وأن الاستسلام لها شيء عقلاني وضرورة حضارية، حتى جعلوا من الهزيمة قدراً يُلقَّن لأجيالنا لا حالةً تقاوم، وفقاً لهذا الطرح يتجلى لنا أن هناك حتميتين: حتميّة نقاوم بها، وحتميّة نقاومها، وهنا تنكشف معركة الوعي الأولى.
فخ الحتمية السياسية
قد تقع بعض تيارات الأمة في فخ "الحتمية السياسية" كقبول الهزيمة على أنها قضاء الله، أو السكوت عن الاحتلال على أنه نُبُوءَة إلهية لا مفر منها، أو أنه علامة من علامات الساعة، علماً أن الإسلام خلافُ ذلك، حيث جاء في السنة؛ (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فَسِيْلَة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها)، معلومٌ أن الفسيلةَ -وهي فرخ النخل- تحتاج إلى وقتٍ حتى تكبرَ وتستويَ على سُوقِها لتُؤتيَ بعد ذلك أُكُلَها، فهذا إن دل فإنه يدل على أن منطق الاستسلام للأهوال الكبرى مهما كانت لا وجود له، بل قاوم حتى اللحظة الأخيرة من الحياة، لأن الإيمان بأن القيمة في الفعل ذاته، لا في النتيجة.
فالقرآن الكريم والسنة المطهرة تزخر بما يدل على أن الدفاع عن النفس والمقدسات واجب ديني وليس عبارةً عن رخصةٍ، وأن المقاومة ضد المحتل ليست خياراً فقهياً بل تكليفاً شرعياً لحماية النفس والدفاع عن الأراضي المقدسة، وهنا تتجلى لنا حقيقة المقاومة وفق المفهوم الإسلامي (أنها ليست تمرداً على القدر، بل هي فهم عميق له).
ولكن يبدو وللأسف أن "الحتمية السياسية" وإن لم تَغْزُنا من ثقافاتٍ وأفكارٍ خارجية، قد تكون ترعرعت في أنفسنا بشكل ذاتي عبر النكبات التاريخية، فهنا لا مَناص من اجتثاثها من نفوسنا وفقاً لمنطق {إنّ الله لا يُغيّرُ ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم} [سورة الرعد].
لذا تجد الإسلام يوازن بشكل دقيق بين حتمية السنن الكونية "القدر" وواجب السعي "التكليف" فلا تبريرَ للاستسلام باسم المكتوب، ولا تعطيلَ للمقاومة بذريعة أن الأمر مغلوب، فالنصر في الإسلام صحيح أنه حتميٌّ من جهة، كما ذُكرَ في سورة الإسراء، إلا أن هذه الحتمية موقوفةٌ على استحقاق الإنسان لها بالانتصار {إن تنصروا الله ينصركم} [سورة محمد]، {ولينصرن الله من ينصره} [سورة الحج].
هل زوال الاحتلال أمرٌ حتميٌّ أم خيارٌ مقاوم؟
هل نحن أمام زوال حتمي لآلة الاحتلال اعتماداً على النبوءات القرآنية والوعود الإلهية كما جاء في سورة الإسراء؟ أم أن هذا الزوال المنتظر هو نتيجةٌ شرطيةٌ تسبقها مقدمات سببية؟
بين هذين الخيارين وقع الخطأ الاستراتيجي للأمة، فالبعض يجعل من النصوص (القرآنية والحَدِيْثِيَّة) مبرراً لتقديم استقالة المقاومة دون بذل الجهد المطلوب، بينما الصواب أن هذه النصوص يجب أن تُؤخذَ في سياق تعبديّ تحفيزيّ تَعْبَويّ، بمعنى أن هذه النصوص صحيح أنها تَشِي بنهاية حتمية للاحتلال إلا أن هذه النهاية لها أسبابها المتعلقة بالفعل البشري، فلا نجعلُ من السنن الإلهية أنها تعاملنا بوصفنا ضحايا، بل فاعلين مأمورين.
ختاماً
إن المقاومةَ الحقيقة ليست فقط ضد المحتل، بل ضد منطق "الاستسلام لقدر مُؤجل"؛ فإيمانك بالوعد الإلهي لا يمنعك من ترجمته إلى أفعال، "فمقاومتي للحتمية" تعني أن أتجاوز خرافة أن التاريخ هو من سينتصر لي بلا فعل، فالحتميات وُجدت اختباراً لنحطمها اقتحاماً {مَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ المُؤمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُم عَلَيهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران]، إذاً بين حتمية الوعد الإلهيّ وشرطيّة الفعل البشري يُكتبُ مَصِيري تجَاه الأقصى المرتبط بدوره بانتصاري على نفسي -عدوي الداخلي- أولاً، ثم السعي في طلب النصر على عدوي الخارجي ثانياً.
Related News

