الوجه الذي لا يظهر
Arab
4 hours ago
share

حدّقت جوي بالعدسة البارزة أعلى إطار الشاشة أمامها، وبسبب بشرتها السمراء الداكنة لم يرها برنامج التعرف إلى الوجه. لم يتعرف إلى وجهها أبداً، وتعذر على الآلة إيجاد وجهها البارز وسط ظلمة الغرفة التي تجلس فيها. كررت المحاولة، عدّلت الإضاءة، نزعت نظارتها، لكن شيئاً لم يتغير. لقد كانت هناك، أمام الحاسوب، وجهاً لوجه، إلا أنه فشل في إدراك وجودها. وضعت قناعاً كانت ترتديه في حفلة الأمس، ونظرت إلى الجهاز فظهر مربع يوحي باكتشاف الوجه، أزالت القناع فزال المربع، رسمت وجهها على باطن كفها ووضعته مقابل العدسة المحدقة أمامها فظهر على الفور مربع يوحي باكتشاف الوجه. أطلقت جوي رحلة البحث. نبشت في قلب الخوارزميات، وكتبت كتاباً يدعو لعالم أكثر عدالة... 

هكذا تروي جوي بولامويني، الكاتبة الأميركية، والخبيرة في الذكاء الاصطناعي، قصتها في كتاب أسمته (كشف القناع عن الذكاء الاصطناعي...). تسرد فيه قصتها هذه، وقصة فشل التقنية في أبسط اختبار: أن ترى الإنسان كما هو، لا كما أراد صانعوها. لتدعو من خلال هذا الموقف إلى عالم أكثر عدالة وأقل تمييزاً.

 يمكن القول إن جوي في تلك الليلة أمست شاهدة على تحيّز صامت، متقن، مبرمج، بقصد أو بدون قصد. واتضح لها أن العيب الحاصل آنذاك ليس أمراً تُلام عليه الآلة، بل في العقل المدّبر وراءها، أو ربما في اليد التي عكفت على إملاء الأوامر البرمجية فيها. تلك الخوارزمية التي لم تتدرب أو تُدرب بما يكفي لترى الوجوه السوداء بوضوح، أو حتى لتراها على أقل تقدير، لأن من كتبها، ربما نسي أن يدرج الآخرين على اختلافهم ضمن دليل التعرف الذي تسير على نهجه تلك الآلة.

والشيء بالشيء يُذكر، فهناك، على الجانب الآخر من العالم، وقف رجل آسيوي أمام هاتفه الجديد، يحاول فتحه ببصمة العين. الجهاز لا يستجيب. كان عليه أن يفتح عينيه الضيقتين بأكبر جهد ممكن، حتى يتسنى للجوال التعرف إليهما، والسماح له بعبور صفحة القفل.

كانت هناك أمام الحاسوب وجهاً لوجه، إلا أنه فشل في إدراك وجودها. وضعت قناعاً فظهر مربع اكتشاف الوجه، أزالته فزال المربع

لا خلاف أن المشكلة ليست نتيجة للملامح ذاتها، بل في الكود أو القانون الذي يتعامل معها. فنحن البشر لسنا نسخاً مكررة، لكل منا ما يميزه عن الآخر، ويستحيل حتى على التوائم أن تتطابق فيها الملامح مطابقة تامة، فبصمة العين كما بصمة الإبهام وبصمة الوجه، لا يمكن أن يشترك فيها اثنان. ولعل هذا التميز أمر ينبغي أن تنبني عليه الكيفية التي تتشكل منها المعرفة الجديدة.

الذكاء الاصطناعي ليس الوافد الوحيد الذي قوبل بالرفض أو الاستنكار. ففي كل مرة تلج فيها آلةٌ حياة الإنسان، تنادي بعض الأصوات محذرة من فقدان مهارات معينة بالمقابل. وقد حدث هذا مرات ليست بالقليلة، وربما يمكن القول إن أحدها يوم دخول الآلة الحاسبة إلى المدارس والفصول الدراسية، حينها ظنّ بعض الناس أن الأطفال مقبلون على واقع جديد سيفقدون فيه القدرة على أبسط مهارات الحساب. 

الذكاء الاصطناعي وعدالة الآلة، واقعٌ جديدٌ، مع أسئلةٍ جديدةٍ: هل يمكن الوثوق بالآلة؟ هل تتمتع الآلة بالإنصاف ذاته كحالها في شتى أنواع العمليات المدرجة فيها، أو مثلما تفعل في العمليات الحسابية الرياضية؟ وهكذا، من الحاسبة إلى الجوال، إلى الذكاء الاصطناعي، تتكرر الحال: آلة جديدة، ورفض متجدد، لكن المأمول دائماً، كما الوجه الغائب أمام الشاشة، لا بدّ أن يظهر.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows