
قُدِّر لمستشفى صغير في مدينة ماليبو في ولاية كاليفورنيا الأميركية، أن يشهد تعارف علمين بارزين من أعلام الموسيقى الجماهيرية الأميركية، ليبدآ علاقة صداقة جمعتهما أمداً طويلاً، منّت على كليهما بتأثيرٍ وإلهامٍ متبادلين.
من دون تحديد التاريخ، وعبر ملصق على "فيسبوك" نشره سنة 2023، روى العضو المؤسّس في فرقة ذا بيتش بويز (The Beach Boys)، برايان ويلسون (Brian Wilson)، الذي رحل في 11 يونيو/حزيران الحالي، أنه: "وفي أحد الأيام، بينما كنت في قسم الطوارئ، أخضع لفحص إثر حادثٍ عارضٍ تعرّضت له، تقدّم إليّ رجلٌ قصير القامة، جَعدُ الشعر، قد عولِجَ للتو جرّاء كسرٍ في إبهامه، سائلاً: هل أنت برايان ويلسون؟ أجبتُ بنعم، فقال لي: أنا بوب ديلان".
ثم توالت اللقاءات بين الاثنين، وتعاقبت المأدبات. تشاركا خلالها شغفهما بالموسيقى، وتبادلا نقاشات حماسيّة امتدت نهاراتٍ وأماسي. وقد كان أبرز ما جعل برايان ويلسون يكنّ احتراماً خاصاً لديلان، بحسب الأول، هو عبقريّته الشعرية بوصفه كاتب نصوص، ما مدّ أغانيه بعمقٍ مهما تسطّح تشكيلها الموسيقي، الأمر الذي جعل منه شخصية مُلهمة في دنيا البوب على مدى الربع الأخير من القرن الماضي، حتى إنه كُرِّم بمنحه جائزة نوبل للآداب سنة 2016.
تلقي تلك الصداقة الضوء على سيرورة النضج الفنّي التي نقلت ويلسون، على حد تعبير صحيفة ذا غارديان البريطانية، من منتجِ أغانٍ خفيفة ارتبطت بارتياد شطآن كاليفورنيا وركوب الأمواج، مثل أغنية البدايات Surfin’ Safari إصدار سنة 1962، إلى أن أصبح، وفي وقتٍ قصيرٍ نسبيّاً، موسيقيّاً فذّاً، أضاف، ليس من خلال الملكة الأدبية وإنما المهارة التأليفية، بُعداً شعرياً وحسّاً ميلانكوليّاً لفرقة ذا بيتش بويز. وعليه، فقد بات من الممكن النظر إلى سيرته بوصفها أمثولة على قدرة الفنان الجماهيري على التحوّل الجذري العميق، الفني والفكري، إن أراد، أو تسنّى له ذلك.
يمثّل ألبوم Pet Sounds، الذي سُجِّل في استوديو سنة 1966، العلامة الفارقة على بدء التحوّل الذي طرأ على ويلسون، وذلك على الرغم من الفشل في تحقيق أيّ عوائد مادية تُذكَر إثر طرحه داخل السوق الأميركية. ونظراً إلى أهمّيته، أطلقت الفرقة سنة 2006 نسخة جديدة مطبوعة على CD، احتفالاً بمرور أربعين عاماً على إصداره الأول.
جوهرة التاج بين تراكات الألبوم هو السادس المعنون Let’s Go Away for A while، وبرايان ويلسون هو من صاغه مؤلّفاً وموزّعاً. ولئن كان من المخطّط أن تُضاف الكلمات إلى المادة الموسيقية، فإن ويلسون ارتأى أن لا حاجة إلى جعلها أغنية، وأن يُكتفى بها مقطعاً آليّاً من دون غناء، في خطوة جريئة ونادرة، خصوصاً بالنسبة إلى فرقة روك شبابية صاعدة.
التراك، الذي لا يتجاوز الدقيقتين، أشبه بخلطة موسيقية ضمن قالبٍ حرّ. مادته الأوليّة أقرب إلى جاز، وإن أُضيفت إليها قليلاً من نكهة الروك الهلوسة (Psychedelic) على شكل مؤثّرات صوتية تؤدّى على آلة الغيتار الكهربائي. في حين يُسمَع البيانو بانتظام في الخلفية برفقة آلة الفيبرافون ذات الخاصيّة الجامعة بين الإيقاع والنغم، ترسيان معاً تشكيلاً نغميّاً ثابتاً (Riffs) ترافقه طبولٌ تدقّ إيقاعاً عسكريّاً متقطّعاً خافتاً يتّكئ على ضربتين، سيخضع لتصعيدٍ تدريجيّ يُبنى بواسطة المعالجة الهارمونية (Progression).
تنحل الذروة التصاعدية عند الثانية 24، في طيفٍ نغميٍّ موزّعٍ أوركسترالياً، تؤدّيه مجموعة آلات نحاسية من ساكسفون، ترومبيت وترومبون على طريقة فرق الجاز الكبيرة (Big Band)، بينما تنسل بعض أصداء الـRock بين الحين والآخر، من خلال رشقات الدرامز. عند الثانية الثلاثين، ينتقل التوزيع الموسيقي تدريجياً من لون النحاس إلى وتريات الكمان والتشيلو، لتكسو الـRiffs بجملةٍ شاعريّة، وتدخل في حوارية آليّة مع النحاسّيات.
هذا المزيج الثري من المنظور التوزيعي، الزاهي بالألوان الصوتية، الذي يجمع بين آلات تُمثّل أجناساً موسيقية متعددة ومتباعدة، تتدفّق معاً بانسجام سائغ كنهرِ أنغام، إلى أن تبلغ عند مشارف الدقيقة الثانية (01:00) ذروة درامية، تتوقّف عندها لبرهة، مفسحةً المجال أمام آلة الفيبرافون لأن تتصدّر، فتتقدّم بنمط Riffs جديد، بينما تتردّد أصداء حوارية بين غيتار كهربائي وترومبيت مزوّد بكاتم غيّر من نبرة صوته.
على خلاف المتعارف عليه في موسيقى الروك، لا تلعب طبول الدرامز في Let’s Go Away for A while دوراً محوريّاً، وإنما وُظّفت عيّناتٍ صوتيةً مبعثرة ترصدها الأذن بصورة متقطعة، ما يعزّز سيولة العمران الموسيقي، الذي يوحي بأجواء حلم أو حال نشوة مصحوبة بالهلوسة والهذيان، كالتي تصيب المرء جرّاء تعاطيه مسكرات أو مخدّرات.
من هنا، فإن هذا التراك الفريد أشبه بشطحة إبداعية عابرة جرى الاحتفاظ بها، بتسجيلها وإدراجها ضمن محتوى الألبوم. إلا أن شطحات كتلك لا يمكن تجسيدها صوتيّاً إلا بامتلاك ثقافة سمعية واسعة، وحيازة أدوات التشكيل الموسيقي المناسبة؛ أي إتقان مهارات كتابة النوتة، وهرمنة الأصوات، وتوزيعها، لأجل تأليف الانسجامات النغمية وصياغتها بحسب مناسيب الآلات الموسيقية المختلفة وطبائعها.
هكذا، كأن برايان ويلسون قد تمكّن من خلال الدأب والدُّربة من أن ينظم القصيدة بوسائل موسيقية، لا يُقيّدها على شكل مفردات، وإنما نوتات؛ ولا ينظمها أبياتٍ، وإنما إيقاعات وجُمل لحنيّة، توحي بمشاعر وأحاسيس تراوح ما بين الفرح والترح، الغبطة والميلانكوليا، وإن لم تخرج من الناحية الشكلية عن خفّة الأغنية الجماهيرية.
من خلال تغريدة، نعى بوب ديلان صديقه القديم، برايان ويلسون، وقد كتب فيها: "سمعت اليوم الخبر الحزين عن برايان، فأخذت أفكّر في كلّ تلك السنين التي قضيتها أستمع إلى موسيقاه وأقدّر عبقريّته. ارقد بسلام أيها العزيز برايان".
