
تتكامل أدوار شركة مؤسسة غزة الإنسانية الأميركية مع قوات جيش الاحتلال في غزة، ضمن منظومة لإدارة الجوع وليس القضاء عليه، بما يقوض السلم الأهلي ويفكك بنية المجتمع، تمهيداً لترويضه سياسياً وخلق بديل مليشياوي للمقاومة.
- عاد الخمسيني الغزّي أحمد عوض إلى خيمته في منطقة المواصي بخانيونس، مثقلاً بالحزن والدم النازف من ذراعه، بعد سرقة الطرد الغذائي الذي حصل عليه بشق الأنفس من مركز توزيع المساعدات التابع للمؤسسة الأميركية Gaza Humanitarian Foundation (GHF)، والذي افتُتح في 26 مايو/أيار الماضي بحي تل السلطان في مدينة رفح، الخاضعة لحصار واحتلال شاملين.
لم تكتمل فرحة عوض وآماله في إطعام الأسرة، إذ اعترضه في طريق العودة لصوص يحملون أسلحة بيضاء، كما يروي لـ"العربي الجديد"، وهو يمسك بذراعه النازفة، قائلاً: "غادرت الخيمة عند الخامسة فجراً، وسرت أكثر من 20 كيلومتراً ذهاباً وإياباً، وعند مركز التوزيع، وقفت إلى جانب نحو 50 ألف شخص في ممرات طويلة تحيط بها الأسلاك، ويُشرف عليها حراس أميركيون، ليتم التسليم وسط إطلاق نار متواصل، ما أدى إلى سقوط 50 شهيداً وجريحاً، قبل فتح الأبواب لتوزيع ما لا يتجاوز 400 طرد غذائي فقط ساعتها".
النجاة من تلك المهلكة والحصول على الطرد كان معجزة ملأت قلب عوض بالفرح، فأخيراً سيعود بما يسد رمق أطفاله، لكن الأمل الكاذب سرعان ما تبدد حين أوقفه اللصوص، ولدى مقاومتهم تلقى ضربة سكين في ذراعه ليسقط الطرد أرضاً، ولأنه لم ينصرف إلى حال سبيله كما أُمر، هددوه بالطعن في رقبته إن لم يستسلم، فاضطر للمغادرة والنجاة بحياته.
شركة هندسة الفوضى
"المؤسسة المسؤولة عن توزيع المساعدات في رفح لا تؤدي دوراً إنسانياً محايداً"، بحسب تقييم إسماعيل الثوابتة، مدير المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، إذ لا تعمل وفق المعايير الإنسانية الدولية، بل "ضمن أجندة سياسية تستهدف إعادة تشكيل المشهد الإنساني والاجتماعي في قطاع غزة تحت عنوان المساعدات، بدليل أن عدد ضحايا الاستهداف الإسرائيلي للساعين للحصول على المساعدات الغذائية بلغ 450 شهيداً، بينما أصيب 3466، ولا يزال 39 في عداد المفقودين، منذ 27 مايو الماضي وحتى 21 يونيو/حزيران الجاري".
تستهدف الطائرات الإسرائيلية الشرطة لمنعها من ملاحقة لصوص المساعدات
توزع مؤسسة GHF المساعدات "بصورة انتقائية غير شفافة، وبآليات خارجة عن التنسيق مع المؤسسات الرسمية أو الشركاء المحليين، بما يتعارض مع المبادئ الأساسية للعمل الإنساني والمتمثلة بالحياد، والإنسانية، والاستقلالية، وعدم التحيّز" يقول الثوابتة، إن هذا النهج، خلق بؤراً من الاحتقان المجتمعي، مثيراً صراعات داخل صفوف المتضررين، كما يعمق من الشعور بالتمييز والغبن، بدلاً من تخفيف معاناة الناس، "لتُسهم هذه الممارسات في استخدام الغذاء كسلاح للضغط والابتزاز"، في تخادم بين "الرؤية الأميركية الإسرائيلية الساعية لتفكيك المجتمع الفلسطيني وترويضه سياسياً تحت غطاء المساعدات".
ويدخل ضمن ذلك تكامل الولايات المتحدة وإسرائيل البادي في إدارة الكارثة الإنسانية بغزة، إذ تواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي سياسة التجويع الممنهج من خلال الحصار العسكري والدمار الشامل للبنية التحتية والمرافق الحيوية، فيما تتدخل الولايات المتحدة عبر أدوات "إنسانية" مموّهة تمثلت في مؤسسات مثل GHF، يقول الثوابتة إن هذا "التناغم" يهدف إلى إدارة المجاعة لا إنهائها، والنتيجة "هندسة فوضى مقصودة تدفع البنية المجتمعية نحو التفكك والاقتتال الداخلي، وتشويه لصورة المقاومة والمؤسسات الوطنية، تمهيداً لفرض حلول سياسية جائرة".
هذا التسلسل يتبعه الاحتلال منذ بداية الحرب الحالية، ضمن رؤية تدميرية للمجتمع الفلسطيني وإحدى أدواتها هندسة الفوضى، من خلال دعم وتشكيل عصابات منظمة وشبه منظمة، تسلب المواطنين حقهم في الأمان، باستخدام خصخصة العمل الإنساني في القطاع، بعد سحب هذه المهمة من المؤسسات الأممية المعروفة، مثل برنامج الأغذية العالمي، والأونروا، كما يلاحظ الباحث المختص في العلوم السياسية والمحلل في شبكة السياسات الفلسطينية (مؤسسة فكرية مُستقلة)، الدكتور طلال أبو ركبة.
عصابات تبة النويري
تتعمق مآسي الغزيين الذين يعانون الويلات من أجل الحصول على الغذاء عبر تفاقم عمليات السرقة المنظمة، ومن بينهم الثلاثيني شادي جمعة، الذي تعرض للبلطجة والسرقة مرتين، لذا صار يتوجه إلى مقر الشركة الأميركية برفقة 6 من أشقائه وأبناء عمومته، أربعة منهم يدخلون للحصول على الطرود، والباقون يؤمنوهم في رحلة العودة، ويتبادلون معهم حمل الصناديق الثقيلة، حتى لا يجرؤ أحد على مهاجمتهم، خاصة أنهم يحملون أسلحة بيضاء تحت ملابسهم، لاستخدامها في الدفاع عن أنفسهم عند الضرورة، وحين يصلون إلى خيامهم، يتقاسمون ما جلبوه، موضحاً أن السير في تلك الطرقات الخطرة بلا حماية يعني تعرض الشخص ليس لسرقة المساعدات فقط بل سلب الهواتف وكل ما يحمله، وربما قتله وإصابته، وهو ما تؤكده ثلاثة مصادر طبية في مشافٍ بمواصي خانيونس، إذ يتلقون ما بين 10 و20 حالة يومياً من ضحايا البلطجة، وبعضهم يكونون قتلى.
ولم يقف الأمر عند سرقات على طرقات رفح وجنوب خانيونس، إذ ينسحب الحال على "تبة النويري" غربي مخيم النصيرات والذي يشكل جزءاً من الطريق الساحلي المؤدي إلى محور "نتساريم" الفاصل بين وسط غزة وشمالها وشرقها، وهو الطريق الوحيد المسموح التحرك عليه مشياً على الأقدام بين المنطقتين، لكن لخطورته بات يعرف بـ "طريق الموت".
وهذا ما واجهه الأربعيني عبد الله نصر من سكان مدينة غزة، إذ توجه إلى منطقة "فش فريش"، وهي أقرب سوق لمدينة رفح تباع فيها عادة المساعدات التي يُحصل عليها من المؤسسة الأميركية، فاشترى 10 كيلوغرامات من الطحين مقابل 400 شيكل "110 دولارات"، وفي رحلة عودته، وصل إلى تبة النويري، فخرج عليه لصان ووضعا سكيناً على رقبته، وطلبا منه ترك الطحين والهاتف النقال وكل ما يحمل على الأرض وترك المكان مسرعاً، وإلا قتلوه، فتوسل إليهما وأخبرهما بأن أطفاله جائعون ينتظرون عودته بالطحين، لكنهما رفضا، فلم يجد بداً من ترك كل شيء وعاد منكسراً إلى مدينة غزة.
ما سبق يؤكده 12 غزياً من المضطرين إلى السير في تلك الطرق المليئة باللصوص والبلطجية، قائلين إنهم يبحثون عن الضعفاء، سواء نساء أو أطفال، أو كبار في السن، أو حتى أشخاص يسيرون منفردين، لسلب الطرود منهم. ويدخل هذا ضمن عملية تشكيل المليشيات المُسلحة، شرق رفح، من خلال عصابات ياسر أبو شباب، كما يقول الدكتور أبو ركبة، لافتاً إلى مجموعة أخرى تنشط جنوب خانيونس، وتستولي على شاحنات المساعدات، وتشكيل آخر على تبة النويري وسط القطاع، يبلطج على المواطنين، متوقعاً أن تتحول هذه العصابات نفسها إلى مجموعات لحماية المساعدات مُستقبلاً، وهذا جزء من المطروح إسرائيلياً ليُشكل بديلاً عن حركة حماس وحكومتها، ويساعد في تفكيك الحركة، بالرغم من أن هذه الحالة المليشياوية ستشكل أطرافاً متصارعة تدمر المجتمع أكثر مما وصل إليه.
طوق النجاة
في ظل هذا الواقع "المزري" وغياب مظاهر الأمن، تتحول غزة إلى بيئة طاردة لأهلها، كما يرى أبو ركبة، لتصبح فكرة الخروج من القطاع بمثابة طوق النجاة الوحيد في أذهان كثير من السكان، وهو هدف يسعى الاحتلال إلى تحقيقه، لا عبر القصف وحده، بل أيضاً عبر خنق الحياة اليومية وتحويل المعاناة إلى دافع للرحيل. ويتفق مع الطرح السابق عشرة من الغزيين الذين وصلوا إلى مركز توزيع المساعدات التابع للمؤسسة الأميركية، وأجمعوا على أن ما يحدث هناك لا يمتّ بصلة للعمل الإنساني، ويُجمعون على أنّ كمية المساعدات التي تُلقى في الساحة لا تكفي سوى 5% من الحشود الهائلة التي تتدفق نحو المكان، وما إن تُفتح الأبواب حتى تعمّ الفوضى: اندفاع هستيري، تدافع، عراك بالأيدي، وسقوط ضحايا تُدهس أجسادهم تحت الأقدام، في مشهد يشبه ساحات العراك لا الإغاثة.
خمسة من أصل العشرة أكدوا أنهم تمكنوا من الحصول على صناديق مساعدات، لكنهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بها؛ إذ اعترضهم لصوص وسلبوها منهم تحت التهديد، إما بعد دفعهم وإسقاط الصناديق من أيديهم، أو باستخدام السلاح الأبيض أو الناري لإجبارهم على التخلي عنها.
ولا يقف الأمر عند حدود الفوضى، بل يمتد إلى تعطيل المبادرات المجتمعية أيضاً، وبحسب إفادة أحمد موسى، أحد منسقي مؤسسة Yedibasak الإغاثية التركية في غزة، فإن عشرات اللصوص المسلحين هاجموا في نهاية مايو الماضي مخيماً قيد الإنشاء كان مخصصاً لإيواء عائلات نازحة بلا مأوى. فاقتحموا المكان وسرقوا الخيام وهواتف السكان، وهددوهم بالسلاح، ما أدى إلى إجهاض المشروع بالكامل.
ملاحقة اللصوص
يؤكد موسى، إلى جانب الثوابتة وثمانية مواطنين آخرين، أن المؤسسة الأميركية ساهمت بوضوح في تفكيك وتدمير الجهود الإنسانية المحلية وخلق بيئة من الرعب والفوضى بدلاً من تقديم العون.
ومع ذلك نجحت "وحدة سهم"، وهي قوة شرطية جرى تشكيلها خلال الحرب ومهمتها حماية الجبهة الداخلية في القطاع، في ملاحقة اللصوص والتعامل مع 50 منهم خلال شهري مايو ويونيو، من خلال اشتباكات مسلحة، أو مداهمات لبيوت وخيام، وفق مصادر مطلعة، رفضت الكشف عن هويتها لحساسية الأمر.
مداهمات ناجحة لبيوت وخيام 50 لصاً من المتورطين في نهب الغزيين
لكن وجود اللصوص في مناطق خاضعة للسيطرة الإسرائيلية تصنف على أنها "حمراء"، يعقد من جهودهم، إذ تنتشر العصابات تحت حماية وغطاء الاحتلال، وحال لاحقتهم الأجهزة الأمنية يُستهدفون بالقصف المباشر، كما حدث في 29 مايو الماضي على "مفترق السرايا" وسط مدينة غزة، إذ استهدفت الطائرات الإسرائيلية عناصر الشرطة أثناء ملاحقتهم اللصوص، ما تسبب باستشهاد ثمانية منهم. كما كشفت تحقيقات وزارة الداخلية في القطاع أن عصابات السرقة يقودها عملاء للاحتلال، مؤكدة أن هذه العصابات تعمل بتنسيق ممنهج مع العدوّ لبث الرعب بين المواطنين، وأنها ستتعامل معهم كـ"المستعربين" وستواصل ملاحقتهم رغم التحديات.
أيضا يعوّل الثوابتة على وعي المجتمع ودعمه لتعزيز قدرة هذه الأجهزة على التصدي للأدوات التخريبية، ودور العائلات والعشائر والقيادات المجتمعية في نبذ الفوضى، مشيراً إلى أن الاستقرار لا يمكن تحقيقه بالجهد الأمني فقط، بل يحتاج إلى تعاون مجتمعي فعّال في مواجهة الشائعات والكشف عن التحركات المشبوهة.

Related News


