أسفار في "مدينة الطين".. ملحمة سعود السنعوسي السفلية
Arab
3 hours ago
share

"أسفار مدينة الطين ثلاثة: العباءة، والتُبّه، والعنفوز" للروائي الكويتي سعود السنعوسي. وإذا استثنينا العنوان الأول العباءة، فسيتبيّن لنا أن العنوانين الباقيين يعودان إلى الدارجة الكويتية، وهذا له دلالته، إذ إنّ العنصر الكويتي إذا كان مقصوداً فهو متعمّد. قد يقودنا ذلك إلى موازاة مع خماسية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، ولن نبتعد كثيراً في هذه الموازاة.

أسفار مدينة الطين لا تخفي كويتيّتها، إنها ملحمة كويتية بالفعل، لكنّ "مدن الملح" مع ذلك تختلف عنها في كونها تتناول تاريخاً يؤدي أكثر فأكثر إلى بناء دولة. إنّها تاريخ سياسي، فيما لا نستطيع أن نحصر الأسفار في ذلك فقط. هنا الكويت بالتأكيد، ولمحات من تاريخها: الوجود الإنكليزي وما بعده، وإمارة آل صباح، ومعركة الجهراء مع الإخوان. هذا بالطبع تاريخ، لكنّنا لا نجد الثلاثية تنحصر فيه.

في السفر الأول "العباءة" نلتقي بشخصيات لا تتصل فوراً بالتاريخ السياسي. نحن هنا أمام تاريخ سفلي، في سفليّته لا يكاد يمتُّ إلى السياسة والدولة. بحارة اللؤلؤ وما نجم عن هذه الصنعة من أساطير، التبة وهي غوصة طويلة، بودرياه والطنطل وحشا البحر، ترانيم الموج السبعة، بالإضافة إلى الصاجات وهنّ عرّافات. الشخصيات التي نصادفها لا نصيب لها كبيراً من السياسة أو الدولة، إلّا حين تشملها الحرب مع الإخوان، من بين الناس الذين تشملهم الحرب.

فانتازيا زمنية تنتقل فيها شخصيات الثلاثية بين أمس وغد

بخلاف ذلك، لا تتجاوز شخصيات الرواية إفراطها في سفليّتها وشعبويتها. هناك الصاجات، وهن ذوات نظام خاص وموقع، بل وسلطة في المجتمع. إلى جانبهنّ نصادف رجالاً يبالغون في أهوائهم، بحيث يجعلون أنفسهم مرمى الهزء. هناك خليفوه ذو الملمح المثلي، الذي يبقى مجرد ملمح، ومعه قططه التي هي مجتمعه. هناك الهزار الذي لا يكفّ عن الكلام، وهناك كولمان الكويتي، الرجل في زي طفل. وهناك في المقابل الشايب، الذي بهذه الصفة يبدو عارفاً بكل شيء ومتنبئاً بكل شيء.

إلى جانب ذلك هناك صادق بوحدب، كاتب الأسفار، ولا نستطيع أمام هذا الاسم أن ننسى اسم الصاجة أم حدب. ثم هناك ذلك الاسم الذي يكاد يكون بطل الرواية، سليمان بن سهل، زوج فضة التي تحمل منه، لتتردد بعد ذلك شائعة أن زوجته أخت له بالرضاعة، وليشيع أنه مات وابنه احترق. شائعة لم تثبت، لكنّ استمرارها وبقاءها غريبة حتّى عن أبطالها يشكلان عمقاً ما للرواية.

اختفاء منصور البحار في عمق الموج التي ألقى بنفسه إليها يشكل مدخلاً لسرد يوازي بين الوقائع والشخصيات من جهة، ومصائرها الفانتازية التي تتزاوج مع الوقائع وتكاد تشكل جزءاً منها، إذ إنّنا لا نجد لبودرياه سوى اسمه فقط. وبحسب وجود كولمان الكويتي، الرجل في هيئة طفل، يبدو نوعاً من الطرفة أو الغرابة المقصودة.

أما الفرق الزمني الذي يبلغ سبعين سنة بين فصلي الرواية، فهو فرق يبدو بحد ذاته فانتازياً. فنحن هنا نجده يتقدّم إلى الأمام كما يتقدّم من الخلف، وهذه الحركة هي في صلب فانتازيا الرواية. نحن في الزمنَين المتباعدَين لا نزال نجد تقريباً الأشخاص أنفسهم.

هذا الفرق، الذي هو في السفر الثالث "العنفوز"، يكاد يكون موضوع النص وعنوانه. نحن ننتقل هنا فصلاً بعد فصل بين 1920 و1990، ومع ذلك نرى تقريباً نفس الشخصيات، أو ما يقترب منها، والوقائع والمسائل والموضوعات نفسها نراها وهي تتقلب في الزمن.

نحن هكذا أمام فانتازيا الزمن التي ينتقل فيها الأشخاص بين أمس وغد، يرجعون إلى ما قبل أو يتقدمون إلى ما بعد، لكن حركة الزمن هنا في هذه الفوضى من الرجوع والتقدم لها هي الأخرى فوضاها. نحن نعثر هنا على الزمن فيما يشبه السحر، أو ما يشبه أن يكون قالباً سحرياً.

نبدأ هنا من ركوب الحمير لننتقل إلى ركوب السيارات، لكن ليس هذا كل شيء. الأشخاص يخرجون من الزمن وقد لبسهم ذلك ذهاباً وإياباً. ألعاب الزمن هذه تعبث بالأشخاص والوقائع، وتتركهم ضائعين فيها، وقد طبعتهم وركبت وجوههم وحركاتهم. المجلدات الثلاثة تفاجئ، لكن هذه المرة بقدرتها الروائية، بقدرتها على ابتداع لغة خاصة وملحمة خاصة. هنا نصل فعلاً إلى لعبة محكمة، إلى نوع من القدرة على إنتاج نص موازٍ لـ المسار السردي، موازٍ وقادر على الابتكار من الداخل، على خلق تلوين وتنويع واختراع، ما يصنع من السرد ومساره ملحمة فعلية وخاصة.


* روائي وشاعر من لبنان

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows