مهمّات قذرة لتأسيس التعايش بالإخضاع
Arab
4 hours ago
share

وقعت الحرب الإسرائيلية الإيرانية، وتغيّرت ملامح المنطقة، بغضّ النظر عن النتيجة التي ستُفضي إليها هذه الحرب. وفي أفضل الأحوال بالنسبة لإيران، ستخرج دولةً محطّمةً، وستحتاج وقتاً طويلاً لترميم جراحها، إن استطاعت ذلك أصلاً. عبّر المستشار الألماني فريدريتش ميرز بأدقّ صورة عن واقع الحرب الجارية، وذلك خلال مشاركته في قمّة مجموعة الدول الصناعية السبع ( كندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة) في كندا، فأعرب عن دعمه الضربات الواسعة التي تنفّذها إسرائيل ضدّ إيران منذ يوم الجمعة (13/6/2025)، قائلاً: "هذه مهمّة قذرة تؤدّيها إسرائيل نيابةً عنّا جميعاً"، وقدّم ألمانيا أحدَ ضحايا النظام الإيراني، متمنّياً زوال هذا النظام نتيجة الضربات.
نعم، إنّ "المهمات القذرة"، التي تُنفَّذ خدمةً للمصالح الغربية هي ما يوجّه السياسات العالمية اليوم، قامت بها الدول الغربية نفسها، وتحديداً الولايات المتحدة، أم نفّذتها أدواتها المنتشرة في هذا الموقع أو ذاك. لقد بات التفريق بين العدو والصديق خاضعاً لمعيار وحيد، المصلحة الغربية، بصرف النظر عن أيّ اعتبارات أخلاقية أو حقوقية. أمّا الحرب الإسرائيلية القائمة، فلم تكن لتقع لولا أنها تصبّ في خدمة هذه المصالح الأميركية. وأمّا الحديث عن أنّ بنيامين نتنياهو أقنع دونالد ترامب بالحلّ العسكري، فذلك لا يتناسب مع شخصية ترامب الذي يرى كلّ شيء من منظور رجل أعمال عقاري، لا يدخل صفقة من دون أن يخرج منها رابحاً. وهذا بالضبط ما وفّره له نتنياهو، حين طرح عليه معادلةً مفادها: إذا نجحنا، فأنت الرابح؛ وإذا فشلنا، فالخسارة عليّ. ومن المرجّح أنّ هذه الرؤية جاءت مدعومةً بتقديرات عسكرية أميركية تُرجّح نجاح العملية بنسبة شبه مطلقة، وهو ما جعل الضوء الأخضر الأميركي أقرب إلى صفقة محسوبة، لا إلى قرارٍ مبنيٍّ على قناعة استراتيجية، ترى أبعد من اللحظة السياسية الراهنة.

ما يُرسم اليوم، هو عالم يسوده منطق الغابة وتنظّمه الفوضى، وسلسلة متواصلة من "المهمات القذرة" تجاه الضعفاء

لن تُكلّف الحرب على إيران ما كلّفته الحروب التي خاضتها الإدارات الأميركية السابقة، ولن تؤثّر سلباً في شعبية الرئيس الأميركي داخل قاعدة ماغا، إذ لا يحمل خطاب ترامب أيّ بُعد تحرّري أو ادّعاء بنشر الديمقراطية، على غرار ما رُوِّج في حروب الولايات المتحدة على كلّ من فيتنام وأفغانستان والعراق وغيرها، فليست هناك قوات أميركية بصدد النزول إلى الأرض لتحرير إيران، وليس هناك جنود يسيطرون على الأرض ويحكمون الشعب الايراني، حتى لو تدخّلت الولايات المتحدة مباشرة في الحرب، فسيقتصر هذا على شنّ ضربات جوّية مدمّرة، مُستهدِفةً موقع فوردو، الذي استعصى على الطيران الإسرائيلي، وهو يحتاج قنابل قوية وشديدة الانفجار، لا أحد يملكها سوى الولايات المتحدة. وبعد التدمير الذي سيتسبّب به الطيران، ستترك إيران الجريحة لمصيرها طالما أن الهدف، وفقاً للخطابَين الأميركي والإسرائيلي، قد تحقّق بتدمير المشروع النووي الإيراني.
ما إن نجحت الضربات الإسرائيلية الأولى، حتى بدا ترامب ناطقاً رسمياً باسم الحرب، لم يكتفِ بدعوة إيران إلى "الاستسلام غير المشروط"، بل تحدّث بلغة الأنا العسكرية، كما في قوله: "سيطرتنا الآن كاملة وشاملة على الأجواء الإيرانية"، وطالب سكّان طهران بالمغادرة، وكأنّ الحرب تُخاض باسمه شخصياً. فلولا التسليح الأميركي الاستثنائي، لما امتلكت إسرائيل القدرة على تنفيذ هذه الضربات، إذ حصلت على أسلحة متطوّرة لا تتاح حتى لأقرب حلفاء واشنطن. هذه الترسانة، التي جعلت من إسرائيل الدولة الأكثر تفوقاً عسكرياً في المنطقة، لم تكن لتحقّق هذا التفوّق لولا المساعدات العسكرية الأميركية الحاسمة، التي ساعدتها على مدى سنوات في بناء وتوسيع قدراتها الهجومية والدفاعية.
لا يمكن توصيف ما يجري إلا حرباً عدوانيةً على إيران، ولسنا نقول هذا دفاعاً عنها، بل دفاعاً عن قواعد الصراع وأسسه، التي أقرّتها القوانين والأعراف الدولية، والتي سحقتها إسرائيل والولايات المتحدة في هذه الحرب، من دون مبرّر حقيقي، سوى الادّعاء الإسرائيلي بأن إيران قد تشكّل خطراً وجودياً، إذا امتلكت يوماً ما سلاحاً نووياً. اعتدت إيران في دول عدة في المنطقة، واعتداءاتها مدانة، ففي كلّ صراع هناك مُعتدٍ ومُعتدى عليه، هناك ضحيّة وهناك جلّاد. وفي الحالة السورية، كانت إيران الجلّاد والشعب السوري الضحية. أمّا اليوم، فإسرائيل والولايات المتحدة هما الجلّادان، وإيران هي الضحيّة. فالأنظمة لا تدفع فاتورة الحروب، إنما الشعوب وحدها التي تدفع، والشعب الإيراني هو من يدفع الفاتورة اليوم.
تتجاوز هذه الحرب حدود إيران، إذ تعيد رسم قواعد الصراع عالمياً، إنها تُذكّر بالدور الذي لعبته الحرب الأميركية على العراق في سبيل تحرير الكويت، وهي الحرب التي أسّست بعمق لعالم ما بعد الحرب الباردة، والانتقال من نظام القطبَين إلى عالم أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة. لكن أميركا يومها سعت إلى الحصول على الشرعية الدولية، وأسّست تحالفاً واسعاً، ووضعت الحرب تحت مظلّة الأمم المتحدة. بعد هجمات يوم 11 سبتمبر (2001)، تبدّلت المعادلة، غزت العراق من دون تفويض دولي، وأسقطت نظام صدّام حسين، ودمّرت الجيش العراقي، وأقامت نظاماً طائفياً تحت ذرائع عن أسلحة دمار شامل وصلاته المفترضة بـ"القاعدة"، وهي ذرائع تبيّن لاحقاً زيفها.

تتجاوز هذه الحرب حدود إيران فتعيد رسم قواعد الصراع عالمياً، وتُذكّر بالدور الأميركي في حرب تحرير الكويت

أمّا اليوم، في عهد ترامب ونتنياهو، ومع صعود قادة يتعاملون مع القانون عائقاً لا مرجعيةً، تُتجاوَز كلّ القواعد التي أرستها البشرية بعد الحرب العالمية الثانية. فمع وصول ترامب إلى ولايته الثانية، بدأ يلوّح بالحروب، حتى ضدّ الحلفاء، كما فعل في تهديده باستخدام القوة ضدَّ الدنمارك إذا رفضت بيع جزيرة غرينلاند، وليس مستغرباً أن يستخفّ ترامب، الذي لا يعير القوانين الداخلية وزناً ويعتبر نفسه فوقها، بالقوانين الدولية، وهو الذي يتجاهل المؤسّسات الدولية، وينسحب منها الواحدة تلو الأخرى. تمنح هذه القوة العظمى دعماً غير مشروط لنتنياهو ليخوض حروباً وفق مزاعمه عن "التهديد الوجودي"، في تجاهل لكلّ القيم والمواثيق. وفي ظلّ هذا الاستباحة للحريات وانتهاك القانون الدولي، وتدمير حدود الدول وحقوق البشر الأساسية في الحياة والطعام والشراب، من أميركا إلى إسرائيل، فإن ما يُرسم اليوم، هو عالم يسوده منطق الغابة وتنظّمه الفوضى، وسلسلة متواصلة من "المهمات القذرة" تجاه الضعفاء، إذ يستطيع القوي أن يفعل ما يشاء، ويُسحق الضعفاء (دولاً وأفراداً) بلا هوادة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows