كرونوس الثاني
Arab
5 hours ago
share

ليست الحروب الاستباقيّة وليدة اليوم. لذلك، ليس من حقّك أن تجحظ بعينيك دهشةً واستغراباً. أنت تعرف هذا النوع من الحروب منذ قرّر كرونوس، قائد الجبابرة الإغريق، أن الحلّ الأنسب كي لا يصنع به أولادُه ما صنع هو بأبيه، أن يتغدّى بهم قبل أن يتعشّوا به. خشي كرونوس أن يخلعه أحد أبنائه فرأى أنّ أفضل طريقة للحفاظ على العرش أن يبتلعهم جميعاً. كان يدشّن بذلك ما سيسمّى فيما بعد "الحرب الوقائيّة"، ولم يخطر في باله أنه سيخلّف تراثاً استراتيجياً تتبنّاه مستقبلاً دولٌ بكامل وزارات دفاعها، من تل أبيب إلى واشنطن. مع فوارق في الديكور والإخراج، كرونوس اليوم بربطة عنق وخطاب شعبويّ مكرور، واسمه الجديد نتنياهو - ترامب، الكائن ذو الرأسين، الذي يبتلع الجميع باسم الخطر المحتمل.
في رواية "1984" لجورج أورويل (1950)، يُعاقَب الأشخاص على "جرائم التفكير". وهي جرائم لم تُرتكب بعد، لكنّ "الأخ الأكبر" يفترض أنك ستفكّر في ارتكابها. أمّا في فيلم "Minority Report"، لستيفن سبيلبرغ (1946)، فالمجرمون يُعتقَلون قبل أن يرتكبوا جريمتهم، لأن الآلة "ترى" الجريمة مقبلة. ذاك تماماً ما يفعله عرّابو "الحروب الاستباقية" الجدد، لكن لا يهمّ إن وقعت الجرائم أم إن كانت ستقع. المهمّ بالنسبة إليهم أن الجريمة المنسوبة إلى أعدائهم ذريعة للجريمة المرتكبة في حقّ أعدائهم؛ طوّرت إيران أم لم تطوّر سلاحاً نووياً.. لتُدمَّر (!) أطفال غزّة قد يصبحون مقاتلين.. ليُبادوا في الأرحام (!).
المعضلة أن الخطر لا يكون محتملاً إلا بعد أن تتّضح براعمه، لكنّ العقل الاستباقي يراه قبل أن يُخلق، وأحياناً قبل أن يُفكَّر فيه أصلاً، بل إنّه قد يُتّهم به من هو على نقيضه، فيعاقبه على الحلم نفسه، من حلم به ومن لم يحلم أصلاً. كلّ ذلك لأنّك لم تدخل بيت الطاعة، حين حلمت وحين لم تحلم. ودعكَ من دعاوى الانحياز إلى معسكر النور والدفاع عن القيم والرفق بالشعوب. أنت أمام أكثر من حجّة دامغة على أنّ هذه كلّها ترّهات؛ كرونوس هذا الزمن يستبق سوء النيّة مع الوحش الذي لا يمشي في ركابه، ويستبق حسن النيّة مع الوحش الذي يخدمه، حتى حين يكون من أكلة البشر.
الخطر الحقيقي للحرب الاستباقية لا يكمن في قتل الأبرياء فقط، بل هو في موت فكرة الحياة نفسها. كيف يمكن إقامة بيئة تعايش حين يصبح كلّ شيء قابلاً للاشتباه؟ كيف تقيم السلام مع من يراك قنبلةً مؤجلّةً؟ كيف تنشئ حواراً مع من يعتبر سؤالك عن حقوقك علامةً على نزعة جهادية؟ الحرب الاستباقية لا تُطفئ ناراً بل تزرع أعواد ثقاب في كلّ تربة.
تورّط المفكّرون بدورهم في متاهة هذا المفهوم، وما انفكّوا يتورّطون. قال توماس هوبز (1679) إنّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، فأوّل كثيرون كلامه على أنّ الحلّ في أن تَقتل قبل أن تُقتل. بشّر فرانسيس فوكوياما (1952) بنهاية التاريخ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، فقرّر العالم أن يستكمل هذه "النهاية" بقصف الشعوب كي لا يبقى من التاريخ شيء يُكتب. لكن لو قرأوا سبينوزا (1677)، لكانوا علموا أن الحريّة لا تُحمى بالخوف، بل بالعقل. ولو سمعوا من سيمون فايل (1943)، لعرفوا أن العنف لا يُبرِّر نفسه حتى عندما يلبس عباءة النبوءة.
ما انفكّت فكرتا الاستباق والحرب الوقائيّة تتوغّلا في شرايين المافيات السياسيّة منذ كرونوس الأوّل حتّى الكرونوسات الجدد. لكنّ المدهش أنّكَ تشيح وتتفرّج مجتمعاً أو شعباً أو نخبةً ثقافيّةً، في حين أنّك تعرف أنّها لا تمنع الخطر، بل تديمه. إنّها لا تصنع أمناً، بل وهماً بالأمن. ذاك سرّ نجاح هذه الخباثة، إنّها تصنع أجيالاً تتغذّى على فكرة أن العالم لا يعترف بك إلا إن كنت تهديداً. وفي النهاية، تذوب الحدود بين القاتل والمقاوم، بين الجلّاد والمدافع عن نفسه. وتظلّ البشريّة تبحث عن زيوس جديد، يجرؤ على فتح فم الزمن لينقذ إخوته من أبٍ كانيبال، من دون أن تنتبه إلى أنّ زيوس اليوم يخفي كرونوس الثاني، الوحش الذي يربّي حروباً لا تنتهي، وأجيالاً من القتلة، ومشعلي حرائق يسخرون من الجميع ومن كلّ شيء، وقد فهموا جيّداً أنّ إطفاء الحروب لا يضمن البقاء في الحكم، بالقدر الذي يضمنه إشعالها.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows