
شهد مسرح "بيكوك" في لندن يومي 16 و17 يونيو/حزيران الحالي عرضاً مسرحياً غنائياً يحمل عنوان "أسمهان" جمع بين الغناء والسرد والسينوغرافيا، وطرح مقاربة درامية جديدة لسيرة فنانة لم تُختزل في صوتها، بل ظلّت رمزاً يتجاوز الفن إلى قضايا الحرية والهوية، إضافة إلى أنها شخصية أُحيطت بهالة من الغموض.
جسّدت المغنية السورية لينا شماميان شخصية أسمهان، ليس بدور تمثيلي فحسب، بل عبر أداء غنائي واستحضار داخلي عميق، أعاد صياغة الشخصية بصوت وتجربة معاصرة. إلى جانبها، قدّم الفنان أحمد حرفوش شخصية فريد الأطرش، شقيق أسمهان، بأسلوب جمع بين الكفاءة الغنائية وخبرة الأداء المسرحي، ما أضفى على العمل طابعاً معاصراً يمزج بين الحنين وإعادة التخيّل.
المسرحية لا تسرد سيرة أسمهان تقليدياً، بل تتخذ من الليلة الأخيرة في حياتها مدخلاً لطرح الأسئلة، وليس بهدف تقديم الإجابات. النص الذي كتبته المؤلفة الفلسطينية البريطانية سلمى دباغ، يتكئ على مراجع موثقة، منها كتاب "أسرار أسمهان: امرأة، وحرب وغناء" للباحثة شريفة زهور، لكنه لا يلتزم بالتسلسل الزمني أو بالحقائق المثبتة، بل ينفتح على الاحتمال ويشتبك مع الخيال. تبدأ المسرحية بمونولوغ لأسمهان تستعيد فيه الطفولة في الجبل السوري، حيث نشأت. الذكريات لا تُروى بتسلسل، بل تظهر بوصفها مقتطفات من وعي مشتت، يربط الماضي بالحاضر، والفقد بالتمرد. وتظهر عناصر من حياتها الخاصة: طفولة غير مستقرة، وموت أخت، وأم فنانة، وأب مارس سلطته بعنف. يمضي النص في تفكيك صورة أسمهان التقليدية، ويعطيها صوتاً ناقداً وواعياً بذاتها. تقول في أحد المشاهد: "أريد حياة من الحرية والموسيقى... اكتبي هذا، موسيقاي وحريتي".
هذه الجملة تختصر جوهر العرض: محاولة لاستعادة صوت امرأة لم تُتح لها فرصة التعبير الكامل.
قاد الفنان لؤي الحناوي الفرقة الموسيقية، وأُعيد تقديم أغاني أسمهان الشهيرة مثل "ليالي الأنس في فيينا" و"إمتى حتعرف"، بتوزيع حديث حافظ على روح الأصل وأضاف لمسة معاصرة. صوت لينا شماميان حمل الأغاني إلى مستوى جديد، فلم تكتفِ بإعادة إنتاجها، بل أعادت تأملها. في حديثها إلى "العربي الجديد"، قالت شماميان إن خوضها في شخصية أسمهان لم يكن أداءً فنياً فحسب، بل تجربة ذاتية عمّقت وعيها الفني والإنساني. وعبّرت عن تأثرها بعناصر في سيرة أسمهان، خاصة تمسكها بحريتها في زمن كانت فيه القيود الاجتماعية أشد ارتباطاً بالكرامة، كما وصفتها.
العرض لا يقدّم أسمهان ضحية أو بطلة، بل شخصية مركّبة، تصارع الزمان والاختيارات. يتناول العمل علاقتها المفترضة بالاستخبارات البريطانية ومقتلها الغامض في عام 1944، لكنه لا يحسم الرواية، بل يترك نهايتها مفتوحة، على أنها إشارة إلى أن أسمهان لم تُفهم بعد. في تقديم المسرحية على موقعها الرسمي، وُصفت بأنها "رحلة صوت وامرأة وأمة في لحظة تحوّل يتداخل فيها الحب والخيانة، الموسيقى والسياسة، الحقيقة والخيال". هذا الوصف يلخّص بدقة ما حاول العرض إنجازه: ليس استعادة تاريخ، بل مساءلة حاضر من خلاله. امتاز العرض بقدرته على مخاطبة جمهور متنوع، عربي وغير عربي، بفضل عناصره المسرحية والغنائية المتقنة، وأداء شماميان الذي يتجاوز الحواجز الثقافية. لم تكن أسمهان في هذا العرض حنيناً إلى الماضي، بل كانت سؤالاً حاضراً عن معنى الحرية وحدود الصوت في وجه القيد.
