
توظف الفنانة المقدسية بشرى عباسي الوسائط المختلطة لاستكشاف الهوية الفلسطينية من منظور معاصر. تستند أعمالها إلى ثلاثية مفاهيمية: الفلسفة الإسلامية، والشرق الأوسط، وفلسطين، وتسعى من خلالها إلى إعادة تفسير التراث بأساليب حديثة وشاملة. تستلهم أعمالها من العمارة الإسلامية والتاريخ، وتدمج بين الحرف التقليدية والتقنيات المعاصرة، كالتطريز الرقمي والقص بالليزر، ما يمنح أعمالها طابعاً بصرياً غنياً.
تعمل عباسي حالياً على مشروعها "أرض الرموز"، إذ تسعى فيه إلى إعادة تعريف التراث الفلسطيني من خلال تسليط الضوء على البُعد الحضاري والثقافي للمنطقة، إضافة إلى عدد من المشاريع الأخرى. يرتكز المشروع على تصميمات فنية مستوحاة من الهيروغليفية الفلسطينية، وهي رموز تعبّر عن لحظات وقصص تاريخية، منها رمز الغزال، الحيوان الوطني الفلسطيني، المستمد من فسيفساء "شجرة الحياة" في قصرهشام في أريحا. أعادت تفكيك عناصر الشجرة وترتيبها لتخاطب المشاهد مباشرةً، في محاولة لإحياء الذاكرة وإعادة تشكيل الموروث البصري الفلسطيني.
تقول عباسي: "شجرة الحياة هي إحدى أبرز قطع المشروع، وتضم ثلاثة مقاعد من خشب الماهوغني وجلد البقر المحلي، مطرزة بمشاهد من الفسيفساء الأصلية، ترافقها خزانة تحمل داخلها الشجرة الأيقونية، ومقابض على شكل غزلان تعزز البعد الرمزي للتصميم. تهدف هذه القطعة إلى تحويل الذاكرة التاريخية إلى كائن ملموس، يجمع بين الفن والتاريخ والاستمرارية".
من أبرز أعمال بشرى عباسي تصميم كرسي استوحت شكله من أول قوس مدبب في العمارة الإسلامية في القدس، تحديداً من أحد أقواس المسجد الأقصى. ورغم صعوبة تشكيل الخشب المحلي المستخدم في صناعته، أصرت على الاعتماد عليه، تعزيزاً لفلسفتها في إبقاء المشروع فلسطينياً بالكامل، من المادة إلى الفكرة. اختارت في عملها على شجرة الحياة، استخدام جلد مصنّع في الخليل وخشب مختار بعناية، فأعادت ترتيب المشهد بصرياً: الشجرة في الخلفية بحجم أكبر، وثلاثة مقاعد صغيرة في الأمام، يحمل كل منها غزالًا مختلفًا. نُقشت هذه الغزلان على الجلد بتقنية غرز دقيقة.
بالنسبة إلى عباسي، مشروع "أرض الرموز" رحلة لاستكشاف هوية تتجسّد في تفاصيل العمارة والرموز الفلسطينية. تعيش هذه الرموز في شوارع القدس، في حجارة مبانيها، وفي المعاني المتراكمة عبر التاريخ، لتشكّل مصدر إلهام دائماً لها. ترى عباسي أن المشروع لا يزال مفتوحاً على رموز جديدة وأساليب مختلفة للتوظيف البصري، من دون أن يفقد صلته بجوهره. فالغاية ليست إنتاج قطع فنية فحسب، بل بناء أرشيف بصري معاصر يحمل رسائل سياسية وثقافية، ويعيد تعريف علاقتنا بالفن والهوية بطريقة حسية، تتجاوز المعارض والمتاحف لتصل إلى البيوت والمكاتب، وتمنح الرموز حياة جديدة تليق بها.
توضح بشرى عباسي كيف قادها رمز برتقال يافا إلى تصميم السَّلّة أو البَكسة التقليدية، التي كانت تُستخدم في جمع البرتقال وتصديره. وتستعيد بذلك مشهداً من زمنٍ كان فيه برتقال يافا فخراً، لما يتمتع به من جودة، ولأنه شكّل رمزاً للازدهار والتواصل مع العالم قبل النكبة، مع أن البرتقال بات أيضاً رمزاً للفقدان بعد النكبة. لذلك، تسعى إلى إعادة إنتاج البكسة بطريقة فنية معاصرة، باستخدام الخشب المحلي، بتصميم يستلهم تفاصيل البكسة الأصلية، وتستلهم أيضاً من سلال القش القديمة وكراسي القش، لتربط الماضي بالحاضر من خلال مفردات الحياة اليومية.
"أرض الرموز" هو المشروع الثاني ضمن سلسلة بدأتها أولاً بمشروع حمل عنوان "شرق أقرب" (Nearer East)، الذي طرح رؤية نقدية معاصرة للاستشراق من منظور بصري. تجاوزت فيه الإطار الفلسطيني، لتتناول تمثيلات الشرق الأوسط في أعمال المستشرقين التي تصوّر مشاهد من فلسطين والمغرب ومصر. ومن خلال تحليل هذه اللوحات، استخرجت عناصر محددة وأعادت تشكيلها مجسماتٍ ثلاثيةَ الأبعادِ باستخدام تقنيات حديثة كالقص بالليزر، ما منحها حياة جديدة خارج حدود اللوحة. حوّلت عباسي خزانة وسكملة ظهرتا في إحدى اللوحات إلى قطع فنية محسوسة، مستخدمة خشب MDF العادي لتكشف كيف يمكن لمادة بسيطة أن تتحول إلى تجربة بصرية غنية تدفع المشاهد إلى إعادة التفكير في الصورة الأصلية.
هذا المشروع شكّل انطلاقة عباسي في عالم الفن، ومهّد الطريق لـ"أرض الرموز"، ثم إلى مشروعها الثالث الذي تعيد فيه صياغة لوحات لفنانين فلسطينيين كبار برؤية معاصرة تحيي تاريخ الفن الفلسطيني وتفعّله في الحاضر.
في "شرق أقرب"، اختارت عباسي سبع لوحات لمستشرقين التقطوا مشاهد من فلسطين والمغرب والسعودية، لتعيد قراءتها بعين معاصرة. من كل لوحة، التقطت تفصيلة واحدة لافتة، حوّلتها إلى مجسم ثلاثي الأبعاد بلغة تصميم حديثة، مثل مهد طفل أو ماء السبيل، من دون الوقوع في فخ الاستنساخ.
أما مشروع بشرى عباسي الثالث الذي تعمل عليه حالياً، فتنطلق به في رحلة لإعادة بناء أعمال لفنانين فلسطينيين بارزين، من خلال قراءة جديدة لرموزهم البصرية وإعادة تقديمها بأسلوب معاصر. لا تقتصر هذه المقاربة على الشكل، بل تعتمد على بحث عميق في خلفيات كل فنان. يتألف المشروع من 12 لوحة، تُعاد صياغتها ضمن رؤية بصرية موحّدة، تُخاط على القماش وتُقدَّم بإطارات فنية مصمّمة خصيصاً، مع الحفاظ على جوهر كل عمل واحترام بصمة الفنان الأصلية. اختيرت أعمال تنتمي إلى مدرسة بصرية تميزت بأسلوب كلاسيكي يتماشى مع مشروعها.
