
على الرغم من التصريحات المتكرّرة لرئيس الولايات المتحدة، ترامب، بأنه رجل سِلْمٍ، وأنه ينوي إخماد الحروب المندلعة والحيلولة دون تأجيج صراعات مسلّحة أخرى، فإن الواقع يفنّد هذه الادّعاءات، بل قد يعزّز الأطروحة المضادّة لها، وهي أن ترامب رجل حرب بامتياز. فمنذ توليه الحُكم، والرصيد الحربي يتفاقم في العالم، بل يكاد يُنبئ بنذر حرب عالمية ثالثة، تشي بتهوّر القادة الجدد للبيت الأبيض، وبانعدام التحلّي بالحكمة والمسؤولية في مواقفهم وأفعالهم وتصريحاتهم؛ فالحرب الأوكرانية الروسية، التي وعد الرئيس ترامب بوقفها، لا تزال متأجّجةً، ولا وجود لأيّ أفق لحلّ سلمي لها (على المدى القريب على الأقلّ) وقد باءت محاولات ترامب لإيجاد تسوية سلمية للحرب بالفشل الذريع، أمّا حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الكيان الإسرائيلي المحتلّ على قطاع غزّة، فإنه من الجلّي أيضاً أن الوعود التي أعلنها ترامب بإنهاء هذا العدوان وإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين قد نكث بها، وجلّي للعيان أن العدوان تفاقم وتعاظم، ورحى الموت والتجويع والإبادة لم تتوقّف في غزّة، ولا وجود لأفق واضح لإنهاء الحرب، وتبدو إرادة الرئيس ترامب مرهونةً بما يمليه عليه القرار السياسي والعسكري الإسرائيلي، فيترك له حرية سفك الدماء والتدمير والتجويع، والمضي في دوامة العنف المفرغة من دون رادع أو زاجر.
حرب إسرائيل على إيران، حرب بالوكالة يشنّها ترامب للضغط عليها لإرغامها على الاستسلام لإرادته
وتنساق الإدارة الأميركية وراء نتنياهو من دون الالتزام بالمبادئ الكُبرى التي رسمها ترامب لسياساته الخارجية، واعتبر فيها أن شعار "أميركا أولاً" يقتضي الانحياز المطلق لمصلحة الولايات المتحدة، فلا مصلحة تعلو عليها، ويبدو أن الولايات المتحدة لم تتعلّم الدروس من الحروب التي خاضتها سابقاً، ولم تجد لها فيها مخارج مشرّفة وحاسمة، بل كانت مكلفةً لها عسكرياً واقتصادياً، وأدت إلى تشويه صورتها لدى شعوب العالم النامي أو دول الجنوب، فوُصمت بالعار وبعرّابة الدمار، وبالإمبريالية الجديدة والاستعمار المقنّع، واتهمت بالاستغلال الفاحش لثروات الشعوب والسطو على مقدراتها، إذ ساهمت في تعطيل عجلة النمو والانطلاقة الفعلية لاقتصادات تلك البلدان وشعوبها، وفي منع انعتاقها ببثّ التجزئة والفرقة والانقسام والتشتت، وقد اختلقت الولايات المتحدة لفعل ذلك (أينما حلّت) ذرائعَ واهيةً ومشروعاتٍ مفتعلةً لتبرير عدوانها، كما هو الشأن في الحرب على العراق أو على أفغانستان، وانجرّت وراءها قوىً غربيةٌ مواليةٌ في إطار تحالفات عسكرية وسياسية وأمنية مثيرة للجدل.
اليوم، يعطي ترامب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الإذن والمباركة لشنّ حرب مدمّرة وغير محمودة العواقب على إيران، بعدما أوهم الجميع بأنه ماضٍ في مساره التفاوضي مع النظام الإيراني، وتكون بذلك حرباً بالوكالة يشنّها ترامب على إيران للضغط عليها بقصد إرغامها على الاستسلام لإرادته، وبدت تصريحاته أكثر عدوانيةً وعنفاً واستفزازاً من تصريحات القادة الإسرائيليين، من تهديد بتصفية المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، وبأنه "يعرف مكان اختبائه"، وبخطاب تهديد ووعيد بتدمير المنشآت النووية الإيرانية، وبضرورة الاستسلام ورفع الراية البيضاء، في تناقض غريب (ومستفزّ) مع دعواته إلى التفاوض وإيجاد حلول سلمية للملف النووي الإيراني، وكأنّ الخطاب صادر عن زعيم عصابة أو مافيا أو قاطع طريق لا رئيس أقوى دولة في العالم.
والواضح أن الرئيس الأميركي وإدارته يدركان جيّداً تبعات توسيع الصراع الدائر بين إيران وإسرائيل، وإمكانية اندلاع حرب نووية مدمّرة للمنطقة بأكملها، لا للدولة الإيرانية فحسب، بالإضافة إلى إمكانية تمدّد هذا النزاع ليضمّ حلفاء إيران وحلفاء الولايات المتحدة، ولينذر بتبعات اقتصادية أخرى غير محسوبة، تتعلّق بتعطّل إمدادات النفط وارتفاع أسعاره، ونشوب أزمة اقتصادية عالمية يصعب تطويقها والسيطرة عليها، كما أن الإشعاعات النووية التي يمكن أن تمتدّ من مفاعل فوردو الإيراني، عند الهجوم عليه، قد تكون منذرةً بخراب ودمار للأخضر واليابس، وللبشر والحيوان والحجر، غير مسبوقين منذ القنبلتَين النوويَّتَين اللتين أسقطتهما الولايات المتحدة على هيروشيما وناغازاكي اليابانيَّتَين، فضلاً عن مخالفة استهداف هذه المنشأة النووية الاتفاقات الدولية المتعلّقة بحظر الأسلحة النووية وانتشارها، من ذلك معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية الموقّعة في 1968، التي تنبّه إلى "الدمار الذي سينزل بالبشرية قاطبةً من أيّ حرب نووية، وما ينجم عن ذلك من حاجة إلى بذل جميع الجهود لتفادي خطر نشوب حرب من هذا القبيل واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أمن الشعوب"، أضف إلى ذلك المعاهدة الدولية التي تبنّتها منظمة الأمم المتحدة بشأن حظر الأسلحة النووية في 7 يوليو/ تموز 2017، التي ورد فيها أن الدول في المعاهدة "تدرك المخاطر التي يشكّلها استمرار وجود الأسلحة النووية، بما في ذلك من جراء أيّ تفجير لأسلحة نووية يحدث عَرضاً أو عن سوء تقدير أو عن عمد، وإذ تؤكّد أن هذه المخاطر تمسّ أمن البشرية جمعاء، وأن جميع الدول تتقاسم مسؤولية منع أيّ استخدام للأسلحة النووية".
يهدف المشروع الصهيوني، لا إلى إضعاف إيران وتحييدها عسكرياً، بل أيضاً إلى إضعاف دول المنطقة كلّها، وتركيعها
وتضيف أنه "إذ تدرك أن العواقب الكارثية للأسلحة النووية لا يمكن معالجتها بصورة كافية، وأنها تتخطّى الحدود الوطنية، ولها تداعيات خطيرة على بقاء الإنسان وعلى البيئة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية والاقتصاد العالمي، وعلى الأمن الغذائي وصحّة الأجيال الحالية والمقبلة، وأنها تؤثّر تأثيراً غير متناسب في النساء والفتيات، بما في ذلك نتيجة للإشعاعات المؤيّنة". كما أن امتلاك إيران للسلاح النووي (أو قرب امتلاكها له) الذي تتذرّع به إسرائيل لشنّ عدوانها عليها، أمر غير محقّق، ولا تمتلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية أيَّ دليل قاطع على امتلاك إيران الفعلي سلاحاً نووياً أو قنبلةً نوويةً رغم إبداء مخاوفها واستيائها من نقص التعاون الإيراني، فقد أشار مدير الوكالة، رافائيل غروسي، إلى أنها (الوكالة) لن تكون في وضع يسمح لها بالتأكيد أن البرنامج النووي الإيراني سلمي حصرياً ما لم تُساعد إيران الوكالة في حلّ قضايا الضمانات العالقة، وفي هذا التصريح إقرار ضمني بأنه لا شيء يثبت امتلاك إيران للسلاح النووي ولا إلى قرب امتلاكها له، وإثبات بأن العدوان الاستباقي عليها (إن سلّمنا جدلاً بشرعية الدفاع الشرعي الاستباقي) غير مبرّر، وهو علاوة على ذلك مدان من منظور القانون الدولي.
كأن الرئيس ترامب أصيب بالعمى وأغوته نرجسيته، واستعلاؤه وقوته، فهل حسبت حاشيته العواقب جيّداً، وتدرك ما هو مقدم عليه من تهوّر، وما يمكن أن ينجم عن مضيّه بمعية ذراعه الإسرائيلية في هوس جنون العظمة والتدمير والتفوق والهيمنة، من كوارث لا ينحصر أثرها على الجيل الحالي، بل على أجيال وأجيال قادمة؟ وما يثير التساؤل في هذا الصدد أيضاً هو انعدام إرادة الدول العربية الموجودة في الإقليم، وعجزها عن الفعل الحاسم لإيقاف هذا النزيف، وهي ستكون أول المتضرّرين منه عسكرياً واقتصادياً وإنسانياً واستراتيجياً، فإن دُمِّرت إيران ونُزع سلاحها النووي وأُضعف نظامها أو أُسقط، فإن الشهية الصهيو- أميركية للعنف والدم والتوسّع الجغرافي والهيمنة المطلقة على المنطقة ستمتدّ إلى هذه الدول المطبّعة والمهادنة، وسيأتي دور غيرها قريباً لاستكمال المشروع الصهيوني الإحلالي التوسّعي، فإن كانت هذه الدول تمتلك رؤيةً استراتيجيةً واضحة المعالم، ومبنيةً على دراسات استشرافية علمية عسكرية وأمنية وسياسية واقتصادية، فإنها ستدرك حتماً أن المشروع الصهيوني يهدف، لا إلى إضعاف إيران وتحييدها عسكرياً بعد إضعاف أذرعها فقط، بل أيضاً إلى إضعاف دول المنطقة كلّها، وتركيعها وإخضاعها للهيمنة والتفوق الإسرائيليَّين، فكلّ تهديد مباشر أو غير مباشر للكيان الإسرائيلي ولو بامتلاك ترسانة قوية من الأسلحة المخزّنة من الدول المجاورة لها، سيمنحها حقّ الدفاع الاستباقي عن نفسها باختلاق ذرائع شتى، وبدعم أميركي وغربي غير مشروط، فإن كانت هناك قلاع متبقّية حالياً لدرء الأذى عن دول المنطقة فهي إيران وغزّة واليمن، وإذا تمكّنت إسرائيل من تدميرها أو إضعافها فإن كرة الثلج ستمتّد إلى هذه الدول بأشكال مختلفة باطنة أو ظاهرة وبمشروعيات وهمية.
الدول العربية في الإقليم ستكون أول المتضرّرين من حرب اليوم عسكرياً واقتصادياً وإنسانياً واستراتيجياً
وبالعودة إلى الرئيس ترامب، الذي كان يحلم بنيل جائزة نوبل للسلام، وإنهاء كلّ الحروب، يجد نفسه اليوم متورّطاً فيها، وضالعاً في تأجيجها أو إشعال فتيلها أو إدارتها في الخفاء من طريق وكلائه في العالم، وفي رأسهم الكيان الإسرائيلي، فيجوز نعته بأنه رجل حرب بامتياز، وبأنه في أعماق أعماقه لا يؤمن بالسلم، بل يجد له بيسر واستسهال بدائلَ أكثر وجاهةً وحسماً، وأكثر ربحاً للوقت وللجهد، للمضي في مشاريعه وصفقاته من دون عوائق أو مضايقات، مدلّلاً بوضوح على إفلاس سياسي مخيف، وشعار "أميركا أولاً"، الذي طالما تفاخر به، بقي وفيّاً له، لكن "أميركا أولاً" التي يريدها، لا تكون إلا بقوة السلاح والردع والغطرسة والبطش والهيمنة، وليس بنشر قيم السلم والعدل والمساواة والتضامن، فهو لا يملك صنع خيار السلام لأن داعميه والمتخفّين وراءه، ومموّلي مشروعه السياسي، دعاة للصدام والقوة والعنف والسباق المحموم على التسلّح، ولأن تاريخ الولايات المتحدة ذاته تصوغه وتشكّله الحروب داخلياً وخارجياً، فرجل الحرب "ترامب" لا يختلف عن سابقيه من رؤساء أميركا سوى بالمراوغة وحبّ البروز ولفت أنظار العالم إليه، واعتناق نظرية الربح السريع بأقلّ التكاليف والأثمان، ونبذ النفاق والرياء السياسيَّين ليعبّر عما يختلج في داخله من تناقضات وشرور وأطماع بشراهة وانكشاف، مشعلاً الحروب ومؤجّجاً نيرانها، وحامياً مجرميها، ولا يدرك أنها قد تلتهمه هو أولاً قبل أعدائه، لأنه لا وجود في الحروب لحسابات الربح والخسارة بالمعنى المركانتي البراغماتي التجاري الذي يدين به، بل بمعاني الدمار والخراب والزوال التي تلحق بالجميع، وتمتدّ تبعاتها إلى العالم كلّه، من دون استثناء.
