
في قلب مراكش العتيقة، تقدّم الفنانة المغربية لطيفة توجاني (1948) الحرف العربي في هيئات بصرية مغايرة، عبر معرض يتواصل في قاعة Comptoir des Mines حتى منتصف الشهر المقبل، حيث تمزج في أعمالها الأخيرة بين التقليد والتجريد، وتتقاطع فيها مرجعيات دينية وصوفية، وتُستثمر فيها الرمزية الكونية في بناء نصوص بصرية متعددة الطبقات.
يعيد المعرض طرح سؤال الهوية الجمالية في التشكيل المغربي، عبر مسار طويل من التجريب البصري والرمزي الذي شهدته الحروفية منذ عقود، الذي تأسس على تقاطع الذاكرة والهوية، ولم يعد مجرد استحضار للخط العربي بكونه عنصراً زخرفياً، بل تحول إلى وسيلة نقد وتعبير بصري تلامس انشغالات الحاضر.
تجربة حداثية مغربية الطابع
منذ النصف الثاني من القرن العشرين، ومع انطلاق موجة "الحروفية" في العالم العربي، برز اهتمام متزايد بتحويل الحرف إلى عنصر مستقل داخل اللوحة، لا باعتباره وسيلة كتابة، إنما بعده معطى بصري خالص. هذا التوجه، الذي انطلق من العراق مع روّاد مثل شاكر حسن آل سعيد وضياء العزاوي، وجد له امتداداً مغربياً بصيغة خاصة، حيث تلاقحت تقنيات الغرب مع الحس الجمالي المغربي، ليظهر فنانون مثل عبد الله الحريري ومحمد شبعة وأحمد الشرقاوي في الخمسينيات، ممن سعوا لتأصيل الحرف ضمن تجربة حداثية مغربية الطابع. لتأتي الأجيال اللاحقة من الفنانين وتواصل البحث في الاحتمالات التجريدية للحرف، مثل لحسن الفرساوي وفتاح بلالي من مراكش حيث ازدهر هذا الفن.
التحولات البصرية الحروفية
في سياق آخر، يُلاحظ أن هذا الفن لم يعد حكراً على اللوحات الكلاسيكية، إذ تسرب أيضاً إلى الشارع وفن الغرافيتي، الذي قد ندرج فيه جزافاً حتى تلك الوسوم الجماهرية العفوية لمناصري الأندية الكروية وغيرها، حيث يصير الجدار قماشة عرض ونقد، وتسرّب كذلك إلى الوسائط المعاصرة بما فيها فن الفيديو، متحولًا إلى أداة نقد اجتماعي وسياسي، خصوصاً منذ ثمانينيات القرن الماضي. ففي تلك المرحلة، بدأت الحروفية المغربية تنفتح على قضايا الواقع، فتداخلت مع فنون الغرافيتي والكاليغرافيا الحضرية، وصار الحرف يطرح أسئلته على جداريات المدينة، ويتحول إلى مرآة لعقد المجتمع وتحوّلاته. وهنا لم تعد الحروفية مجرد إعادة تشكيل للخط، فقد باتت تشتغل على النص واللغة، وتنتقد الكتابة ذاتها، كما فعل عدد من الفنانين المغاربة الذين تجاوزوا الشكل نحو المضمون.
الحرف من مجرد إرث جمالي إلى أداة تأمل وتفكير بصري
التحولات البصرية التي عرفتها الحروفية في المغرب ترافقت مع صعود جيل جديد من الفنانين في مطلع الألفية، ممن تلقوا تكوينهم في بيئة مفتوحة على مفاهيم الفن المعاصر. هؤلاء لم يعودوا يعاملون الحرف بوصفه نهاية تشكيلية، إنما بوصفه بداية مفتوحة على اللعب، التفكيك، وإعادة التشكيل. فنانون مثل رشيد باخوز ومنير فاطمي قادوا الحرف نحو مناطق تأويلية جديدة، متأثرين بالفن المفاهيمي والسيميائيات والفنون التفاعلية، حيث لم تعد القراءة البصرية للنص الفني محصورة في بُعد واحد، إنما صارت عملية تفاعلية تتيح للمتلقي أن يكون مشاركاً في خلق المعنى، مثل عمد باخوز في منشأته الفنية بفيلا الفنون سنة 2018، حينما دعا الجمهور إلى التفاعل مع أغراض منجزه، بإعادة ترتيب الأحرف المقطعة تبعاً لما يرغبون في تدوينه.
فضاء التفكير البصري
وفي ظل هذا التنوع، يمكن القول إن الحروفية المغربية، رغم تعدد تياراتها، استطاعت أن تنتقل من موقع الزخرفة إلى فضاء التفكير البصري، من مجرد محاكاة للتراث إلى إنتاج معرفة فنية بصرية بديلة. لقد أصبح الحرف، في التجربة المغربية، مادة تشكيلية قابلة للانفتاح على التجريد، والطليعة، والنقد وحتى التهكم والسخرية والتجريب المفاهيمي، وهو ما يمنح هذه التجربة طابعها الخاص داخل المشهد العربي والدولي.
انفتحت الحروفية المغربية منذ الثمانينيات على قضايا الواقع
هذا التنوع في الاشتغالات لم يمنع من بروز تيارات حروفية ذات منحى مونوكرومي، كما في تجربة عبد الصمد بويسرامن، حيث يندمج الحرف في نسيج بصري أحادي اللون، يسمح له بالتحرك بحرية داخل اللوحة، دون أن يكون مقيداً بدلالات لغوية أو زخرفية، فهو يتحول إلى أثر بصري ذي طاقة تأملية متجددة. هذا النمط من الاشتغال يؤشر على مرحلة نضج وصلت إليها الحروفية المغربية، حيث لم تعد مقيدة بإطار تقليدي، إنما أصبحت قادرة على مجابهة التحولات البصرية العالمية بوعي محلي أصيل.
شاهداً على زمنه
وسط هذا المسار والتطوّرات الفنية المتراكمة، يتضح أن الحروفية في المغرب ليست مجرد مرحلة فنية أو تيار عابر، فهي ورشة مفتوحة على الزمن، تتجدد بتجدد الأسئلة، وتتماهى مع تحولات الذات والواقع، دفعت بالكثيرين إلى التفكير فيها والكتابة حولها، مثلما فعل المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي في عدد من مؤلفاته، مبعداً إياها من المرجعية الكلاسيكية واللاهوتية. فهي لم تعد فقط فنًّا يعيد إنتاج التراث وفق بعد رمزي وهندسي وتأويلي، فقد باتت فناً يشتبك مع قضايا العصر، يطرح تساؤلاته عن الوجود والمعنى والانتماء، ويبحث عن صيغ بصرية تتيح للحرف أن يكون شاهدًا على زمنه، وفاعلًا في تشكيل وعينا الجمالي والثقافي.
وفي مقابل هذا التطور الحداثي، للحروفية في المغرب، أُحدِثَت جائزة محمد السادس لفن الحروفية عام 2017 لتكريم المبدعين في مجال فن الحروفية. والمثير للانتباه أن الجهة التي تمنحها وترعاها هي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، لا وزارة الثقافة، ما يكرس من جهة أخرى رؤية ضيقة إلى الفن الحروفي فناً تقليدياً له مرجعية دينية تراثية. لكن من جهة أخرى، كثير من الفائزين بها هم من رموز هذا الفن مثل لحسن الفرساوي.
* كاتب من المغرب
