الهيمنة المُقنَّعة... تنازع الطغاة باسم الخلاص
Arab
4 hours ago
share

ما يجري في الشرق الأوسط اليوم ليس صراعاً تقليدياً بين دول قومية ذات مصالح متباينة، بل هو بين رؤيتَين أخرويَّتَين (Eschatological Visions) تتنافسان على احتكار المعنى، وعلى إعادة صياغة المجالين، الرمزي والسياسي، للمنطقة. إسرائيل وإيران ليستا نقيضَين بقدر ما هما تعبيران عن نزعتَين سلطويَّتَين متنافستَين، لكلٍّ منهما أدواته ورموزه، وسرديته المطلقة. النظام الصهيوني تجلٍّ لحداثة استعمارية ترى في ذاتها مركز العالم، وفي الآخر العربي والمسلم (بل حتى اليهودي الشرقي) كائناً ناقصاً، مهمّته أن يصمت أو يُعاد تشكيله. نتنياهو، ومن ورائه المؤسّسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، لا يتصرّف سياسياً في نظام ديمقراطي، بل قائدَ طائفة أو عصابة مصابة بجنون الاصطفاء العرقي، تمارس عنفاً بنيوياً متقناً، تحت لافتة "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، أو "واحة الديمقراطية".

الخيار ليس بين قنبلة نووية إيرانية أو قصف إسرائيلي متعسّف، بل بين عقلانية تحريرية تُعيد بناء الدولة خارج منطق العقيدة، وخارج إرث الاستعمار

ما زال الغرب يواصل تسويق إسرائيل مجالاً سياسياً محايداً يمكن فيه تداول الأراء وإحداث التثاقف بين القوميّات المختلفة، كما تُوزّع أوراق اللعب في نادٍ ليبرالي. وهذا محضُ خديعة، فإسرائيل، كما قال إيلان بابيه، مشروع استعماري لم ينتهِ، بل تحوّل من احتلال عسكري إلى احتلال معرفي، ومن استعمار مباشر إلى هيمنة بنيوية تتسلّل إلى مفاصل فلسطين المحتلّة والعالم العربي. وقد وصف المفكّر اليهودي يشعياهو ليبوفيتش هذا التحوّل الصهيوني بدقّة حين قال: "لقد أصبحت الصهيونية ديناً مدنياً، عبادةً للدولة والجيش، وتحويل الهُويَّة إلى سلاح". فمن سورية إلى لبنان، ومن غزّة إلى طهران، تتمدّد الذراع الصهيونية مشروعَ هيمنةٍ لا كياناً دفاعياً. إنها رؤية ترى "الأمن"، لا حقّاً جماعياً، بل مبرّراً أبدياً للعنف، و"العدو" لا تهديداً ظرفياً، بل ضرورةً وجوديةً تبرّر استمرار الاستيطان والقصف والتهميش.
ليس جوهر الانزعاج الإسرائيلي من النظام الإيراني أنه ثوري أو إسلامي، بل لأنه يُحرج الغرب، يكشف زيف الرواية الليبرالية، ويدفع شعوب المنطقة إلى مساءلة شرعيات ما بعد "سايكس بيكو". لكنّ الردّ الإيراني للأسف لم يأت بصيغة تحرّرية، بل صوتاً سلطوياً مضادّاً، يقوم على تصدير الثورة بدل إصلاح الداخل، ويُقصي المجتمعات غير الشيعية بدل احتوائها. ظلّ النظام الإيراني الثيوقراطي (رغم ضغوط وتحذيرات) مُصرّاً على إعادة إنتاج نسخته الخاصّة من الاستعلاء باسم "المقاومة" و"ولاية الفقيه". فهو نظام مركزي يحتكر القرار والرمز، يُقصي غير الشيعة، ويحتقر التعدّد والأقليات والمرأة، ويدير الدولة كأنّها ثكنة مقدّسة لا تحتمل الرأي الآخر. وقد تنبّه المفكر الإيراني عبد الكريم سروش إلى حقيقة أنه "حين يتحوّل الدين إلى دولة، فإن كليهما يفقد جوهره. يتحوّل الإيمان إلى شرطة، والسلطة إلى فتوى".
وفي غمرة هذا الجنون، يجب ألا ننسى أن الخيار ليس بين قنبلة نووية إيرانية أو قصف إسرائيلي متعسّف، بل بين عقلانية تحريرية تُعيد بناء الدولة خارج منطق العقيدة، وخارج إرث الاستعمار. هذا النموذج هو الذي يُربك سرديات القوتَين، ويقوّض شرعيتهما الرمزية، ويعيد للمنطقة أملاً لا يُشترى بالصواريخ، ولا يُصاغ بالبيانات العسكرية.
لا تكون نهاية المشروع الصهيوني الاستيطاني بإبادة إسرائيل، بل بتفكيك منطقها الإمبريالي العدائي. ونهاية الطغيان الإيراني لا تكون في اغتيال المرشد، بل في تحرير الدولة من سيطرة الحرس الثوري، ومن سطوة المليشيات وتحويلها عقداً اجتماعياً يسترد به المواطنون حقوقهم الدستورية، وتستعيد به الدولة مكانتها وسط الأمم. حينها فقط يولد شرق أوسط لا يستمدّ معناه من ماضي الخوف، بل من أفق الحرية.

ليس جوهر الانزعاج الإسرائيلي من النظام الإيراني أنه ثوري أو إسلامي، بل لأنه يحرج الغرب، ويدفع شعوب المنطقة إلى مساءلة شرعيات ما بعد "سايكس بيكو"

المشروع الأممي الذي نحتاجه اليوم لا يقوم على الانحياز الأعمى لمحور ضدّ آخر، بل على تفكيك كلا المحورَين من جذورهما الإقصائية. نحتاج مشروعاً علمانياً - ديمقراطياً غير مركزي، يعترف بالحقوق الإثنية والثقافية، ويربط المواطنة بالعدالة التاريخية لا بالهُويَّة الطائفية. دولة تعتمد على جيش وطني موحّد، يُبنى على الكفاءة والمواطنة، ولا تعتمد على جيش عقائدي مشبع بالعنصرية والتعبئة الإثنية.
ختاماً، إننا أمام معركة طويلة ضدّ منظومات تمثّل نفسها لا شعوبها، وتتحدّث باسم الغيب بينما تمارس الإقصاء باسم الحداثة أو الجهاد. ولا بدّ للعقلاء من أن يطرحوا رؤيةً ثالثةً، جذريةً، تُخاطب الإنسان، وتُعيد للشرق حقّه في الحلم، لا في البقاء فقط.
الشرق الأوسط الجديد، حسب مفهوم ساكنيه، ليس تحالفاً نووياً مدمّراً، ولا صفقةً سياسيةً مجحفةً، بل حلم عادل يُعيد الإنسان إلى مركز الحرية والسلام والعدالة. مشروع يتجاوز الطائفة والعِرق، ويكسر الثنائيات الزائفة بين "المقاومة" و"الاستسلام"، بين "الرسالة" و"العقل".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows